كثير من القرارات التي تصدر في هذا البلد تجعل الحليم حيران حقا! فلا يستطيع ان يستوعبها ليعرف مسبباتها ومسوغاتها، والظروف التي اقتضت صدورها على هذا النحو وفي هذا التوقيت بالذات، ولذا فإن المشكلة لا تكمن في قرار ارتجالي بعينه بل بالآلية التي تتم عبرها صناعة القرار بصفة عامة، وفي بعض الاحيان تسير الامور في صورة منكوسة معكوسة تشبه التفكير ببناء الدور الرابع من مبنى قبل التفكير بوضع اسس الدور الارضي!! وما القرار الصادر بإغلاق كلية الشريعة ودمج ما يمكن دمجه من اقسامها العلمية بكلية الحقوق إلا نموذج معبر عما نعيشه من قرارات فطيرة غير نضيجة لم تختمر تصوراتها بعد في اذهان صانعيها! هذا (القرار ـ الأزمة) اثار حوله عاصفة كبيرة من التفسيرات والتعليلات، فمن قائل لعل الامر مرتبط بسوق العمل ومخرجات كلية الشريعة التي لا تتناسب مع حاجاته! لكن هذا التفسير لا يستند الى حقائق احصائية تخلع عليه ثوبا من الصدقية، كما ان الكلية المذكورة ليست بالكلية الوحيدة التي يفترض انها تواجه هذه المشكلة فثمة كليات اخرى تعاني المشكلة ذاتها ولا نية لإلغائها! ومن مجتهد يحاول ان يصيب كبد الحقيقية فيرى ان الامر ذو طابع شخصاني يتصل بعميد الكلية الذي كثرت فتاواه حتى خاضت في قسمة الدوائر الانتخابية! ولا يبدو ذلك مقنعا اذ الحل على فرض صحة هذا الزعم: يقتضي (إلغاء) العميد لا (إلغاء) الكلية! ومن محلل آخر مسكون بنظرية المؤامرة ـ وهي بالمناسبة تكتسب بفضل الواقع المرير مزيدا من الرسوخ وكثيرا من الانصار ـ يرجح ان الضغوط الاميركية المكثفة على بلاد العربان قد اقتضت وفق سياسة تجفيف المنابع اغلاق الكلية المذكورة، مع ان من يستعرض اسماء قيادات تنظيم القاعدة والتنظيمات الاخرى لا يكاد يجد فيهم من تخرج من معهد ديني ثانوي! غير ان الأمر يبقى محتملا لا سيما مع شطط السياسة الاميركية التي تساوي بين خلوات تحفيظ القرآن الكريم ومعسكرات تدريب القاعدة، فهي بنظرها حلقات متسلسلة يسلم اولها الى آخرها! ويقوي هذا الزعم ان قرار الإلغاء صدر عن اعلى شخصية حكومية، وليس عن مجلس الجامعة الذي هو سيد قراراته من الوجهة النظرية، لكن صمته المريب ذكرنا بالمثل المولد السائر (الزوج آخر من يعلم!).
ولا تقتصر اللخبطة الفكرية على آلية صنع القرار فحسب بل تتعدها الى ردود افعال التيارات السياسية المتعاملة مع هذا الوضع فالتيار (الارنبي)! الاسلامي سابقا ـ لم يقم بتلك الثورة المتوقعة ازاء القرار، وهو الذي كان سينتفض من قمقمه لو ان قرار الاغلاق طال احدى جمعيتيه الرئيستين او فريعا (!) من فروعهما! وتأمل في موقف الحركة الدستورية مثلا لتكتشف انها قد اكتسبت خبرة سياسية كبيرة في التعامل مع الاحداث بما يحقق مصالحها الذاتية، فقد حملت الحركة غصن الزيتون في التصدي للقرار المذكور حتى تضمن الخروج بمكسب ما من تعاملها مع الوضع، فلو تم انفاذ القرار فإن موقفها المهادن المسالم سيحظى بتقدير حكومي خاص، وان لم يتم فقد اظهرت نفسها في لبوس الحكيم الذي يحقق ما يريد بهدوء وصمت! وكأن في اقامة مهرجان خطابي وندوة جماهيرية خرقا للقانون وخروجا عن تقاليد الممارسة السلمية لحق المعارضة الديموقراطي الذي استعملته نقابات وتيارات من قبل وفي قضايا تافهة جدا! واما التيار الليبرالي فإنه يتعامل مع الليبرالية بعقلية القيسية والمضرية، ومن ثم فقد ايد هذا الاغلاق اذ كان يدعو اليه من قبل، على الرغم من ان اوروبا واميركا ـ مهد الليبرالية ـ تزخران بالكثير من الكليات الشرعية الخاصة! واخيرا: هل فهمت عزيزي القارئ حقيقة ما يجري؟ اما انا فقد عجزت عن الفهم!