ولا أرى غيري له الدهر مالكاً
تتميز محافظة المنيا عروس الصعيد مسقط رأسي ومهد صبايا بأنها نسيج متداخل بين المسلمين والأقباط منذ دخول الإسلام مصر وحتى غزت المنيا جحافل المغول الجدد وأمراء الظلام في نهاية السبعينات ، ولعب شيوخ التطرف على أوتار الطائفية وأججوا نيرانها رغم جهود العديد من المخلصين. والمنيا كباقي المحافظات الأخرى قدمت على مدى تاريخها مساهمات في بناء الشخصية المصرية وقدمت قادة للتنوير والنهضة منذ نادى جدي اخناتون بعقيدة التوحيد لتعم بعد ذلك مختلف ربوع مصر ، وحين جاءت العائلة المقدسة في رحلتها إلى مصر كانت سمالوط إحدى محطاتها في الموقع المقام به دير السيدة العذراء في جبل سمالوط ، ثم جاءت هدى شعراوى زعيمة النهضة النسائية ثم الشيخ على عبد الرازق والدكتور طه حسين ، كما قدمت المنيا في مجال العلوم الدكتور مصطفى كمال طلبة المدير السابق لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة وفى مجال الاقتصاد الأساتذة الدكتور إسماعيل صبري عبدالله ومحمد محمود الإمام كما قدمت رموز للإبداع الفني مثل الراحل شادي عبد السلام ومجيد طوبيا والمبدع عمار الشريعي ، ولكن الأحوال تبدلت وما عادت المنيا كسابق عهدها عروس الصعيد وبيت القصيد كما كنا نردد ونحن أطفال نشيد الأستاذ على بيومي الرائع.
تتميز المنيا بالتداخل في نسيج مشترك بين المسلمين والأقباط وتتميز أيضاً بالفقر والجهل والمرض الذي كان عنوان الحملة الانتخابية لجدي الشيخ الميرغني في انتخابات مجلس النواب في الأربعينات من القرن الماضي ، وكان أبى متعه الله بالصحة يضعها ضمن برامجه الانتخابية طوال الستينات ، وظلت هم الصعيد على امتداد السنين وحتى الآن رغم تبدل الأنظمة والحكام بقى الإهمال واحد.وكنت أتعجب في طفولتي عندما أرى جدي الشيخ المعمم يخطب في مآتم الأخوة الأقباط ويشاركهم في أفراحهم واطراحهم وعند وفاته كان مطران المنيا والقساوسة على رأس المشيعين وخطب مطران المنيا في سرادق العزاء وقال " الليلة فقدت اخى " كان ذلك قبل ظهور أمراء السنج والمطاوي الذين تربوا في أحضان مباحث أمن الدولة.وكثيرا ما رأيت في طفولتي أبى يهرع ليلثم قبلة على يد رجل دين مسيحي تأدباً واحتراماً وتقديراً وكيف يلومه بعض الجيران في الزمن الردئ "كيف تقبل يد القسيس وأنت أبوك كان شيخ ؟ " ولكنهم لم يعرفوا كيف كان يتعامل الشيخ مع أخوته الأقباط!!!
أتذكر الأستاذ عدلي حبيب مدرس العلوم رحمه الله وجارنا في السكن وهو يقول أنه يعيش مطمئن لأنه يسكن معنا في منزل واحد وكيف كان يعطينا دروس تقوية مجاناً لأننا جيران وهو الذي كان الطلاب يتقاتلون ليحصلوا منه على موعد ، وكيف قام الفنان الراحل جمال بشاي بعمل تمثال للشيخ الميرغني رحمه الله عقب وفاته تخليدا لشهداء ثورة 1919 ورموز الكفاح الوطني.وكيف كان الجيران الأقباط يساعدون والدتي في عمل كعك العيد وكيف كانت تساعدهم وكيف كانوا يتبادلون وصفات الطعام ويتزاورون دون أن نعرف من القبطي ومن المسلم ، وكانوا يتبادلون الكعك والحلوى في المناسبات الدينية المختلفة مع احترام كل منا لشعائر الآخر فالدين لله والوطن للجميع.
ثم جاء أمراء المطاوي والسنج ليعيدوا تشكيل الوعي الاجتماعي وصبغه بطائفية سوداء بحيث أصبح الطفل في مدراس الحضانة يسأل زميله قبل أن يلعب معه أنت مسلم والأ مسيحي . واذكر أنني دهشت في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة حين فضل أبناء مدينة المنيا مرشحة الحزب الوطني التي يرى البعض إنها امرأة سيئة السمعة لتمثلهم في البرلمان بدلاً من الدكتور وجيه شكري المسيحي المستنير مرشح حزب اليسار فلقد تبدلت المنيا وتبدل الوعي وانحدرت القيم وطغت الطائفية. فهذه هي مدينتي التي جاءت بالدكتور جميل سفين الجوهري أبن رجل الدين المسيحي ليمثلها في مجلس الشعب لعدة دورات ، وتذكرت كيف كانت جدتي المسلمة المتدينة ترفض أن تعرض على طبيب مسلم مشهور وتفضل الدكتور جميل حتى وفاتها وكانت تقول كفاية مقابلته ، وكيف كنا جميعا ولا نزال لا نثق في أي طبيب سوى الدكتور جميل الذي يقابلنا بابتسامته الرقيقة ويودعنا بها حتى أصبحنا لا نرتاح لطبيب سواه ونعتبره جزء من أسرتنا الكبيرة .ولكن تبدلت المنيا وتبدل الصعيد وتبدلت مصر كلها .
إنني اعتقد أن هناك بعض القوى تلعب باستمرار على إذكاء الروح الطائفية فمنتهى الأمل لديها تقسيم مصر إلى كانتونات معزولة ، ولكن المتابع المحايد لا بد سيجد عشرات الأسباب التي تذكي روح الطائفية وتتغافل عنها الحكومة بل وتصر مع سبق الإصرار والترصد ( كما في القانون ) على تجاهل الظاهرة الطائفية والتهوين منها والتقليل من شأنها وتتصور أن تمثيليات الوحدة الوطنية والإفطار المجمع في رمضان ودعوة قداسة البابا لبعض المناسبات وتحويل عيد الميلاد المجيد إلى أجازة عامة يمكن أن يواجه الظاهرة فهي كمن يدفن رأسه في الرمال ويتعامي على ما يحدث.
نعم توجد مشكلة طائفية حادة تتفجر بشكل عنيف بين الحين والآخر ويصر النظام الاستبدادي التابع على تغافلها بينما يقاوم المسيحيين المصريين الضغوط المزدوجة التي يتعرضون لها من جانب النظام الحاكم من ناحية ومن جانب الولايات المتحدة التي تحاول استخدامهم كورقة ضغط في علاقتها مع نظامها التابع من ناحية أخرى ، ويتمسكون بمصريتهم وعروبتهم ويدافعون عنها رغم كل التعسف والاضطهاد الذي يتعرضون له.
ولو تأملنا بعض مظاهر الاضطهاد القائم نجد أن النظام نفسه طائفي وأن الفكر الطائفي يسيطر على الكثيرين من صناع القرار وينعكس على مختلف مستويات الحكم في مصر.
إنني هنا لا أتحدث عن حصص في الحكم أو تقسيم طائفي للمناصب ولكن المفترض أن تولى المناصب العامة يتم على أساس الكفاءة وليس على أساس العقيدة الدينية وبغض النظر عن حجم المسيحيين والتلاعب في الإحصاءات العددية الخاصة بهم بما يساهم في تعميق البعد الطائفي.لكن إذا تأملنا بعض مظاهر الطائفية القائمة نجد الاتى:
ـ تضع الحكومة بعض المسيحيين في مناصب وزارية في حدود مقعدين إلى أربعة وسط أكثر من 36 وزير ، فهذا لا يعكس تمثيل عددي ولكنه تمثيل رمزي ومجرد زر للرماد في العيون . رغم أن العبرة بالكفاءة وليست بالعقيدة الدينية وأن مصر للمصريين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية.
ـ يحرم المسيحيين من تولى المناصب العامة كالمحافظين ورؤساء الجامعات ، رغم التغيرات التي حدثت باتجاه المرأة وتولى بعض هذه المناصب إلا أن الموقف من تولى المسيحيين لهذه المناصب لا يزال كما هو.
ـ توجد قيود على تعيين المسيحيين في بعض المناصب كالقضاء وقيادات الجيش والشرطة بما يوجد تفرقة بين عنصري الأمة ويخدم النزعات الطائفية.
ـ دور الإعلام في الاستخفاف بالعقيدة المسيحية وتعرض بعض شيوخ الكجول للمسيحية والمسيحيين بالإساءة والسخرية من معتقداتهم ورموزهم الدينية، والتعامل باستهانة مع شركاء الوطن وكأنهم مواطنين من الدرجة الثانية ويرتبط ذلك بمجمل المناخ الاستبدادي السائد في مصر منذ قدوم عسكر 23 يوليو وحتى الآن رغم تحويل سبعة يناير لإجازة رسمية، ورغم تمثيليات إفطار الوحدة الوطنية ، ورغم تصريحات صفوت الشريف وكمال الشاذلي.ويكفى ما حدث خلال أزمة صحيفة النبا لنعرف إننا نعيش فوق برميل برود طائفي يمكن أن يدمرنا جميعاً.
ـ رغم كل تمثيليات الوحدة الوطنية وتصريحات النظام من حسنى مبارك إلى اصغر عسكري في نقطة شرطة في صعيد مصر عن الوحدة الوطنية إلا أن ذلك أكذوبة ، ورغم كل ادعاءات الوحدة الوطنية والمساواة بين عنصري الأمة نجد الوقائع عكس ذلك .
يوجد في مصر قانون يسمى النظام الهمايوني يفرض قيود على إقامة الكنائس ودور الخدمة ويجعلها جزء من اختصاصات مباحث أمن الدولة لنعرف مدى النعيم الديمقراطي الذي يعيشه المسيحيين المصريين. فمن حق أي ساقطة أو راقصة خليعة ومن حق أي تاجر مخدرات أن يبنى مسجد ضمن غسيل أمواله وتحسين صورته دون أي عوائق ، بل ونجد أمراء الظلام يقيمون فيه الصلاة ويباركونه ، بينما يحرم المسيحيين من إقامة جدار انهار بدون موافقة مباحث امن الدولة ، أما إقامة الكنائس فهي ممنوعة منعاً باتاً .
والمتابع لما حدث في شبرا الخيمة منذ عامين وكاد يحدث كارثة لولا حكمة المستشار عدلى حسين محافظ القليوبية ومطران شبرا الخيمة ، فرغم نمو أعداد الأخوة المسيحيين إلا أنهم محرومين من إنشاء كنائس جديدة رغم انه حق من أبسط حقوق البشر ، ويجب أن تتناسب عدد ومساحات الكنائس مع عدد المسيحيين وأن لا تخضع إقامة الكنائس لأي قيود سوى القيود التي تضعها الكنيسة لتوفير الاعتمادات اللازمة ورجال الدين المؤهلين ولا توجد اى أعباء تقع على كاهل الدولة.
فالمسيحيين وحدهم هم أصحاب القرار بإنشاء الكنائس بما يلبى احتياجاتهم ودون أي قيود إدارية على ممارسة شعائرهم الدينية وتطوير دور العبادة الخاصة بهم.
لكن يصر النظام الفاسد على جعل بناء وترميم الكنائس قضية أمنية رغم كل أغاني واوبريتات حقوق الإنسان ومجالسه وأغانيه التي يزعجونا بها صباح مساء.ويكفى تصريح الأنبا بفنوتيوس أسقف سمالوط وطحا الأعمدة " لم نحصل إلا على قرار جمهوري واحد ببناء كنيسة خلال 28 سنة ، قدمنا 25 طلباً لمباحث امن الدولة منذ سنوات ولا احد يسأل ؟!! " ( جريدة وطني ـ 9 مايو 2004 ).
هل هذه هي حقوق المواطن المصري المسيحي ؟ هل هذا شئ يمكن أن يسكت عنه أي إنسان لديه بقية من ضمير ؟ هل هؤلاء شركاءنا في الوطن ؟ هل هذا هو الموقف الإسلامي من احترام المسيحيين وعقيدتهم ؟! لماذا نتعجب حين يتفجر الغضب كما حدث في الكشح أو كما حدث في أعقاب ما نشر في جريدة النبأ ؟!ولماذا يصر المسئولين على نفى وتكذيب وجود مشكلة طائفية ؟! لماذا يتعاملون بحساسية مع أقباط المهجر ؟! الآ يسألون أنفسهم ما الذي دفع بهم للهجرة ؟!
سمالوط أحد مراكز محافظة المنيا وهى تقع على بعد 230 كيلو متر جنوب القاهرة ، وعلى بعد 20 كيلو متر شمال مدينة المنيا عاصمة المحافظة وتضم سمالوط دير السيدة العذراء في الجبل الشرقي ومحاجر بنى خالد التابعة لشركة الحديد والصلب والتي تضئ ليل البر الشرقي للعابرين بالقطار شمالاً أو جنوباً. ويضم مركز سمالوط عدة قرى من بينها طحا الأعمدة وكنا ونحن أطفال نعرف طحا من خلال نداءات الباعة الجائلين ( طحاوى يا شمام ) حيث كانت تشتهر طحا بإنتاج الشمام والخيار والذين كان لهم طعم مميز قبل أن يفسد يوسف والى ورجاله طعم كل شئ في طحا وفى مصر كلها.
وما حدث في سمالوط يستحق أن نتوقف عنده لنتأمله : وهو وجود كنيسة في قرية طحا الأعمدة هي كنيسة مارمينا الأثرية والتي لا تتعدى مساحتها 200 متر وتخدم 13 ألف مسيحي من سكان القرية .وحين هبت عاصفة انهار جزء من جدار الكنيسة فقام أهالي القرية بترميم الجدار ولكن وفقاً للخط الهمايونى يعد الترميم جريمة أمن دولة استدعت تحرك قوة من الشرطة بعد منتصف الليل على رأسها العقيد أحمد فضل مأمور مركز سمالوط وقوة من الشرطة للقبض على القس إبراهيم ميخائيل راعى كنيسة مارمينا وبعض ممن ساهموا في الترميم ، وحين طلب الأهالي أن يؤجل ذلك للصباح اعتذر المأمور وأوكل المهة إلى ضابط أرعن ومتهور أسمه احمد الكيلانى يعرفه كل تجار شارع الحسيني في قلب المدينة من كثرة تجاوزاته وهو معروف في المدينة ( أنه أبن لواء شرطة ، وشايف نفسه ) ، ولكن حظه العسر هو الذي قاده إلى طحا الأعمدة في تلك الليلة المشئومة . حيث رفض جنابه أن يركب القس إبراهيم سيارة خاصة لأحد الاهالى وصمم أن يركب الجميع سيارة الشرطة وأن يقودها بنفسه بمنتهى التسرع والاستهتار بأرواح من معه وهم ليسوا من عتاة المجرمين ولكنهم رجل دين وبعض المواطنين الشرفاء الذين رمموا الجدار . ونتيجة قيادته المتهورة وتعرجات الطريق ارتطمت السيارة بحائط سور مصرف بالقرب من قرية إطسا وانقلبت السيارة عدة مرات قبل أن يقفز منها الضابط المستهتر وتستقر في قاع المصرف ويستشهد في الحادث القس إبراهيم ميخائيل كاهن الكنيسة والأستاذ محروس ميلاد سيحة وكيل الزراعة الثانوية بسمالوط ، والأستاذ ناصف فهيم أبسخرون وكيل المدرسة الإعدادية بالعمودين.ويصاب باقي الركاب.
إن الحادث يعكس استهتار ضابط صغير وعدم تقديره للموقف ولحرمة رجل الدين الشهيد ، وهو قبل ذلك يعكس نظرة النظام القائم لبناء وترميم الكنائس وتوسيعها وتطويرها ، وإجبار المسيحيين على التحايل بإنشاء مباني تسمى مباني لخدمات الكنيسة أو مركز خدمة ويستخدم في العبادة والصلاة ويتسبب في الكثير من المشاكل . لماذا توضع القيود على حق إنشاء الكنائس ودور العبادة . من حق المسيحيين إنشاء كنائسهم ، كما كان من حق اليهود إنشاء معابدهم قبل أن يخرجوا من مصر وتتقلص أعدادهم فمصر ملك كل المصريين مسلمين ومسيحيين ويهود وهذه هي تعاليم الإسلام الذي رفض خليفة المسلمين عمر بن الخطاب أن يصلى في الكنيسة خشية أن يأتي بعض المسلمين ليستولوا على الكنيسة بدعوى هنا صلى عمر رضي الله عنه فهذا هو الإسلام الحقيقي وليس إسلام البترو دولار الذي سمم الشباب وزرع الطائفية ويغذيها يوماً بعد يوم.
إن ما حدث في طحا الأعمدة وأرواح الأبرياء التي أزهقت بغير وجه حق لخير دليل على استبداد النظام الحاكم وكذب كل ادعائته الديمقراطية وكل المساحيق التي يجمل بها استبداده القبيح وهو ما يتعارض مع كل حقوق الإنسان ومع أبسطها وهو حرية العقيدة وحق العبادة وهو إساءة لكل المصريين مسلمين ومسيحيين. وهذا الضابط المستهتر مهما أخذ كورسات في حقوق الإنسان لن تجدي معه لأنه تلقى علومه ويعمل في منظومة كلها فاسدة وتحتاج إلى تغيير جذري شامل. رحم الله القس إبراهيم وشهداء طحا وألهم أسرهم الصبر . ولتكن هذه الحادثة جرس تنبيه لوقف الخط الهمايونى واحترام حرية العقيدة .
هل يبدأ النظام تغيير سياسته واحترام حق الأقباط والقضاء على مظاهر التفرقة التي يتعرضون لها قبل أن تتحول مصر إلى كشح كبير. وحتى تستعيد مصر وحدتها على أسس ديمقراطية حقيقية وحرية عقيدة حقيقية وليست شكلية ، وحتى يستعيد الصعيد دوره التنموي كجزء عزيز من هذا الوطن ، ولكي تعود المنيا كما تعودنا عليها عروس الصعيد وبيت القصيد محافظنى منية أبن الخصيب .