لكلمة (الحب) فعلها السحري العجيب في النفوس وجاذبيته الخالبة التي لا تقاوم، وهذا ما يفسر تسنّمها قمة هرم الالفاظ المستعملة في التواصل الانساني قديما وحديثا، لكن هذه الهالة المضيئة التي تلفها تستغل بطريقة بشعة من قبل كثيرين يرون فيها عقارا للتخدير يسهل لهم خداع ضحاياهم، فما اكثر الجرائم التي ترتكب باسم الحب وبيد المحبين المزيّفين! يعبث المراهق بارقام الهواتف كيفما اتفق، فاذا ما سمع صوتا انثويا على الطرف الاخر من الخط فزع الى كلمة السر (احبك)، فان كانت الاخرى مسكونة بوهم الحب واحلام الرومانسية انساقت معه خلف ذلك السراب الخادع حتى تقع فيما لا تحمد عقباه، لتجد نفسها في نهاية الشوط وقد لفظت كما يلفظ آكل التمرة نواها!! حتى الشيطان الرجيم نفسه يدرك بفطنته الشريرة سحر هذه الكلمة فيدخل على ابن آدم في ثوب المحب الناصح ويزين له التعدي على حدود الله بدعوى المحبة النزيهة، ومنذ الخطيئة الاولى كانت الوسوسة بذلك مفتاح هذا الباب (وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين)، ونسي آدم التحذير الالهي (ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما ان الشيطان لكما عدو مبين)، وحين يلتقي احباب الشيطان بحبيبهم المخادع في عرصات القيامة فانهم يمنون انفسهم بكلمة منه يثبت فيها ـ ولو شكليا ـ انه بادلهم حبا بحب لكنه يعلن في نهاية الامر حقيقة الخديعة حين يتبرأ قائلا (اني بريء منك ان اخاف الله رب العالمين)!!.
وحين تفتح المذياع فلست تسمع سوى اغاني الحب والغرام التي لا تهدأ ولا تكلّ للحظة قط، فتظن ان الدنيا كلها قد اصيبت بعدوى الحب، واذا طالعت صفحات الشعر الشعبي هالك ما تراه من حديث مسهب وشكوى مرة من هجر المحب وصده الذي يحيل العيش الى عذاب لا يطاق، غير ان عجبك يتضاعف بعد ذلك حين تطلع على صور المغنين والشعراء فترى تلك الخدود المتوردة وتلك الاجفان الصقيلة لتعلم ان ما انشدوه وما سطّروه لم يكن سوى حبالة مستهلكة لاقتناص حطام الدنيا والفوز بالصيت والشهرة على حساب المغفلين، ولم يكن الحب سوى مطية سريعة العدو تنجح في بلوغ تلك الغاية بأقصر طريق وأقل تكلفة!!.
اما ان كنت من مستعملي البريد الالكتروني، فاحذر من فتح اي رسالة تحمل عنوان الحب، فان كنت مبتدئا غرا تجهل حبائل الشبكة العنكبوتية وأبيت إلا أن تغامر بفتحها، فان فيروس الحب سيصيب (قلب) القرص الصلب لحاسوبك، فيصنع به ما لم تصنعه العامرية بالمجنون ولا ولاّدة بابن زيدون، ولا جولييت بروميو!
وفي عالم السياسة تغدو خديعة (الحب) احدى مكائدها الناجحة، فتغزو اميركا العراق بدعوى تخليصه من عصابة (عاشقة) للعنف والارهاب وتحويله الى دولة (محبّة) للسلام، وتكتشف ان المستر (بوش) يحب العراقيين ولذا فقد سعى الى تخليصهم من الظلم والطغيان لينعموا بحقوق الانسان، وحين تفجرت فظائع معتقل (ابو غريب) وما جرى فيه من تعذيب وترهيب، فان الحب يهرع سريعا الى تقديم تعليله المنطقي لهذا التناقض الصارخ مستندا في ذلك الى التراث الشعبي الذي يرى ان (ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب)!!.
وهكذا نجد انفسنا نعيش وسط عالم يتغنى بالحب ويضج بشعاراته ويجعله الطبق الرئيسي في وجباته الثلاث ولا يتوانى عن الاعلان عنه شعرا ونثرا وطربا وخطبا، لكننا نجده في حقيقة الواقع اشبه ما يكون بالغاية التي يحكمها سلطان العداء وطبائع البغضاء، فاذا ما اردت ان تجهر بالعداوة لفرد من افرادها فليس امامك اوضح للمقصود وأجلى للمراد من ان تصرخ في وجهه قائلا (انا احبك)!!.