يعيش العالم العربي والإسلامي اليوم مرحلة من أعقد مراحله حيث التراجع سيّد الموقف في كل التفاصيل , وقد أصبحت النكسة بل النكسات ملازمة لحياتنا السياسية و الإقتصادية و الثقافية و الإجتماعية ناهيك عن الأمنيّة والعسكريّة , وكلما أوغلنا في قطاع معين نكتشف حجم التراجع فيه , و حجم التخلف أيضا. فقطاع السياسة لا يحتاج إلى تقديم أدلّة و مبررات لكشف حجم التراجع فيه , فالوجوه هي الوجوه , والبرامج هي البرامج , و المناورات هي المناورات , وعندما تطالب الشعوب العربية بالتغيير يقوم رسميونا بإضافة عبارات جديدة إلى مسمياتهم الإيديولوجية التي يحكموننا بها , فيصبح الحزب الدستوري الإشتراكي الحزب الدستوري الديموقراطي والحزب الوطني الإشتراكي الحزب الوطني الديموقراطي , و جبهة التحرير الوطني حزب جبهة التحرير الوطني , و تصبح المملكة الوراثية مملكة دستورية , و المملكة العائلية مملكة وطنية و ما إلى ذلك من التغييرات التي تطاول الظاهر دون المضمون , و الشكل دون الجوهر , و إذا إستماتت جماهيرنا في المطالبة بالتغيير , يقوم رئيس الجمهورية بإقالة رئيس الحكومة في الساعة الواحدة ظهرا ويعينه رئيسا للحكومة بمرسوم جديد في الساعة الثانية ظهرا في نفس اليوم – ساعة واحدة للضحك على الذقون و تخدير الجماهير – ويقوم رئيس الحكومة بجلب نفس الأشخاص ويعين من كان وزيرا للزراعة وزيرا للثقافة فيخلط بين أبي الطيب المتنبي و البطاطا , و يصبح وزير الإقتصاد السابق وزيرا للموارد المائيّة و هلمّ جرّا و يبقى الرئيس هو الرئيس , و النهج هو النهج , و السياسة هي السياسة , وفي الوقت الذي تعلن فيه الحكومات عن إلغاء محاكم أمن الدولة ترفع ميزانية الأجهزة الأمنية لرفع عدد المخبرين الذين سكنوا في كل الزوايا والشوارع و حتى حركة القططة والكلاب الشاردة باتت مرصودة .
ولم يكتف القيمّون على هذه السياسات على القفز على ضرورات التغيير ومواكبة العصر , بل خلقوا تيارات فكرية و إعلامية وثقافية لا تناقش إلا قضايا الماضي الذي هو في حكم العدم كما يقول الفلاسفة , فعلى الصعيد السياسي فإنّ الغالب على نقاشاتنا هو الماضي و العهود البائدة و الحق مع من كان مع علي أو أبي بكر , وصممت برامج إعلامية للحديث عن الماضي و الغوص في تفاصيله , فهذا شاهد على العصر وذاك شاهد على القرن , و ذلك شاهد على المرحلة , ولم أشاهد أي برنامج يتحدث عن المستقبل و يستشرف لنا المرحلة المقبلة في كل تفاصيلها , وفي الغرب وحده يوجد أزيد من ثلاثة آلاف مركز إستشرافي يعنى بالدراسات المستقبلية بما في ذلك مستقبل العالم العربي والإسلامي , أمّا في العالم العربي فلا يوجد أي مركز يتولى قراءة المستقبل لا قريبه ولا متوسطه ولا بعيده .
في خطابنا السياسي مازال حاكمنا يحدثنا عن بداياته , وكيف قام بإنقلابه مع زملائه الذين إنقلب عليهم وقتلهم عن بكرة أبيهم , وما زال رؤساء الحكومات يحدثوننا عن إنجازاتهم السابقة في عهد الحرب الباردة وسياسة القطبين , و مازال مثقفونا يحدثوننا عن إزدهار الثقافة في عهد الأندلس , ومازال خطباؤنا في المساجد يحدثوننا عن صراعات الصحابة و دور البيضاء والصفراء في إثارة الفتن بين المسلمين .
لقد أصبح الماضي مرجعيتنا وثقافتنا وزاويتنا وركننا الركين , وحتى حكامنا يذكروننّا بالماضي لأنّهم منذ الماضي وهم يحكموننا , ومنذ نعومة أظفاري وأنا أشاهد الكثير من الرؤساء الذين يحكموننا حتى أنّ الكثير منهم لم تتغيّر ملامحه بحكم طلاء الشعر الممتاز الذي يستخدمونه ويستورد لهم خصيصا وكان الأولى بهم أن يستخدموا الحنّاء لأنّها من الماضي .
أما في الغرب فهاجسهم المستقبل , الفضاء , القرية الكونية , القرية الفضائية , دراسات بالجملة والمفرّق عن الزراعة في هذا الإقليم الغربي سنة 2030 , الصناعة في ذاك الإقليم في سنة 2040 , كيفية إستثمار الطاقة الشمسية في المجالات كافة , والأكثر من ذلك دراسات عن آفاق العالم العربي والإسلامي برؤى غربية قحّة .
بسبب كل ما جئنا على ذكره وغيره كثير فقدنا دورنا راهنا ومستقبلا , فنحن خارجون من كل الخرائط الثقافية و السياسية والإقتصادية و الأمنية والإستراتيجية , ثمّ إذا أردنا بداية الإصلاح في عالمنا العربي والإسلامي فمن أين نبدأ فالعفونة في كل مكان !
المنظومة السياسيّة متهرئة من أساسها وقوامها التملق والمحسوبية و القمع والديكتاتورية بالإضافة إلى أنّ الأجهزة الأمنية المتواطئة مع السيد الرئيس هي التي تسيّر ما يعرف بالدول تسامحا في بلادنا , والإقتصاد قوامه عصابات من رجال مخابرات وسياسة وضباط عسكريون يمسكون بإقتصاد أمّة بكاملها , والثقافة هي أكثر العناصر مظلومية في واقعنا العربي ويكفي النظر إلى مصاديق الثقافة و أحوال المثقفين الذين لا يجدون قوت يومهم لندرك مأسويّة الثقافة في بلدنا , أمّا أمننا فهو مخروم من أساسه وتكفي دبابة أمريكية واحدة لتطيح بأي رئيس عربي يخشوشن على شعبه فقط و يحني الرقبة أمّام الأمريكي صانع القضاء و القدر العربيين والإسلاميين .
كنّا نأمل أن نبدأ مسارنا مع بداية الألفية الثالثة بشكل صحيح في ضوء التجارب والأخطاء السابقة , لكن لو يبعث أجدادنا من القرن العاشر وقبله وبعده لوجدوا الحال هي الحال , والظرف هو الظرف , والفكر هو الفكر , و الطرح هو الطرح , والمرض هو المرض , والإستبداد هو الإستبداد , وما زلنا نختلف بين يجوز ولا يجوز حتى أصبحت أمة محمد كالعجوز !!