القلم ترجمان القلب المعبر عما يعتلج فيه بمداد الكلم، وصوت العقل الناطق على صفحات الورق، يحكي ما تجيش به النفوس من مشاعر وعواطف، وما يعتريها من أحاسيس وانفعالات، ولذا فلا غرو ان كان القلم أحد اللسانين، وحظي بما حظي به من قصائد وخطب ومقالات تشيد به وتعدد فضائله الكبيرة وتستعرض محاسنه الجمة، غير ان للقلم بيانا لا يفطن له كثير من الناس، انه ضرب من البيان اللاشعوري تكشف عنه طريقة الكاتب في رقم كلماته وتحبيرها، فخلف خط كل منا دلالات ورموز تنطوي على أسرار قد يجتهد البيان المكتوب في اخفائها غير ان الأسلوب الذي يتبعه البنان عند خط الحروف والصورة التي يقبض بها على اليراع تظل سمة خاصة مميزة يصعب التخلص من سلطانها القاهر والتملص من تلقائيتها الصادقة. ولا تقتصر الفروق الخطية على التمييز بين شخصية وأخرى، بل انها تبلغ درجة من الحساسية العالية التي تتيح لنا التمييز بين أحوال الكاتب المتقلبة بين الراحة والطمأنينة حينا والقلق والاضطراب حينا آخر، فمتى ما كثر الكشط والـشطب في كتابة ما فذاك شاهد صريح على ان الكاتب متردد في ما يخطه بنانه وأنه بسبب هذا التردد والتأرجح لا يدري ماذا يكتب منذ اللحظة الأولى التي ينثر بها مداده على وجه الورقة البيضاء، ولذا ففكره مشغول وباله مشوش، أو انه لا يفكر مليا قبل ان يرقم حروفه فيده أسرع من فكره ولذا فإن مسافة الاختلاف بين الخط والفكر تبدو كبيرة كما تشهد بذلك طريقة الكتابة غير المتنمقة، فإذا وجدت للشخص نفسه مخطوطا آخر يمتاز بالتنسيق والترتيب وندرة الشطب والكشط فيمكنك القطع ساعتها انه حين أمسك بالقلم في ذلك الوقت كان رخيّ البال رائق المزاج مستجمعا لصوب الفكر وحسن الصياغة معا، متمكنا ايما تمكن من عنان فرسه (القلمي)!!
وعند الحديث عن رباطة الجأش والسيطرة على مقاليد النفس في أشد المواقف وأحلك الأزمات فإن صورة تلك الوصية التي خطها كاتبها قبيل اعدامه تقفز بقوة الى ذهن المرء، فقد كان كاتبها أحد أحرار العرب الذين أعدمهم جمال باشا الجزار - الوالي العثماني - في دمشق ابان الحرب العالمية الأولى، وقد خطها قبيل سويعات من اعدامه حث ابناءه على تفهم الأمر وشرف المصاب موصيا اياهم بالتجلد والتصبر عقب رحيله المفاجئ، فلقد اجتهد كاتبها في تنميقها وتجميل خطها بطريقة تفتقر اليها رسائل العشاق التي هي مضرب المثل في هذا الباب، لقد حرص الأب عبر هذه الكتابة المتقنة على ان يحمل الخط رسالة لا شعورية صدوقة مؤداها ان الأب كان ثابت الجنان مستسلما لقضاء الله وقدره حين نزوله، ولم يكن حكم الاعدام مع ما فيه من الرعب والرهبة قادرا على هز شعرة في مفرقه، وحسب الضحية بذلك انتصارا باذخا على جلاده الزنيم، وعزاء مقنعا لليتامى المفجوعين! فلقد كانت تلك الكلمات الأثر الحي الأخير لهذا الراحل على حين غرة، فلا غرو ان اجتهد في أن يجعل هذا الأثر درسا انسانيا خالدا في الثبات وجلادة البأس وصدق العزيمة, ويطول الحديث عن الخطوط ودلالاتها وتباينها بين المستويات الاجتماعية والدرجات الوظيفية و,,,, و,,,، وحتى نفي للموضوع حقه نتم بقية حديثنا و المقالة القادمة بإذن الله.