أهاج انقطاع الكهرباء في البحرين قبل بضعة أيام، وهرب بعض سكانها إلى المنطقة الشرقية بحثا عن "التكييف" شجوني الصيفية،.. وهناك كثيرون في بلدان عربية كثيرة سيقولون إن أهل البحرين "مدلعون" ولم يصبروا على الحر بضع ساعات، ولهم العذر في إطلاق ذلك النعت القاسي على البحرينيين، لأنهم لا يعرفون ماذا يحدث عندما تتحالف الحرارة مع الرطوبة، ولأن من لا يعرف نعمة تكييف الهواء، يحسبه ترفا ودلعا لا لزوم له!! وكما قلت بالأمس فإنني لا أطيق الحر ولا أطيق "سيرته"، بل لا أتابع نشرات الأحوال الجوية في الدول العربية في فصل الصيف لأن من يقومون بإعدادها ذوي نزعات إرهابية: مسقط 48 درجة مئوية، مقديشو 50 درجة، الخرطوم 72 طن متري.. مع احتمال هبوب عواصف ترابية تتسبب في انخفاض الرؤية (ونحن أصلا نعاني من ضعف النظر السياسي والاجتماعي)!! هل أنا دلوع؟ نعم وبكل فخر!! لماذا لا أدلع نفسي بالجلوس في أماكن مكيفة وتركيب مكيف إضافي في سيارتي؟ أول مرة أتعامل فيها مع الكهرباء - بل أرى فيها الكهرباء - كان عمري نحو 16 سنة عندما قدمت من شمال السودان إلى الخرطوم للالتحاق بالمدرسة الثانوية.. أذكر أنني ظللت جالسا لنحو خمس ساعات أتأمل المصباح الكهربائي الذي ظل مضيئا بوتيرة ثابتة رغم وجود نسمات هواء قوية.. وكانت تلك أيضا أول مرة استحم فيها بالدُش.. ماء كثير ينزل مثل الشعيرية التي كنت أحبها، ولكن أهل الخليج جعلوني أصاب بالقرف لمجرد رؤيتها، لأنهم يسمونها "بلاليط"، ولا أفهم كيف يدخل إنسان في بطنه شيئا اسمه بتلك البشاعة!! للدخول في المدارس الثانوية كانت تتنافس مئات المدارس المتوسطة على مقاعد في نحو عشر مدارس ثانوية (هو إجمالي ما كان متاحا منها في ذلك الزمان)، وكان ذلك يعني أن على الإنسان أن يستذكر دروسه بعنف وشراسة في وجه المنافسة الشرسة كي يجد مكانا في مدرسة ثانوية، ولأنني من أسرة برجوازية بدليل أنني كنت أذهب إلى المدرسة الابتدائية على ظهر حمار، فقد زودني أهلي بلمبة (مصباح) يعمل بالجاز الأبيض (الكيروسين)، ولأن الناس كانوا معتادين على الظلام فقد كنت حين أذاكر دروسي ليلا أضع بطانية حول جسمي كي لا يتسلل ضوء المصباح إلى من ينامون حولي، ولحسن الحظ لم يكن ثاني أوكسيد الكربون موجودا في تلك الأيام، ولعله كان موجودا ولكنه كان من النوع الحميد الذي لا يسبب تلفا في الرئة، فقد كنت أستنشق الدخان المتصاعد من اللمبة بكميات تجارية، لأن الضوء الصادر من اللمبة ما كان يكفي لتمكيني من القراءة ما لم أضع الكتاب ووجهي على بعد ثلاث بوصات منها!! ومع هذا كنت مطالبا بترشيد الإنفاق بعدم استخدام المصباح لمدة طويلة، والتركيز على المذاكرة أثناء ساعات النهار.. ولأن الإنسان قد يرضى بالهم ولكن الهم لا يرضى به، فقد كنت أحيانا أعجز عن إشعال اللمبة لعدم وجود كبريت!! كان الكبريت في تلك الأيام عملة صعبة وكان الناس يبقون على النار مشتعلة في غرفة تسمى مجازا "مطبخ" حتى لا يضطرون إلى استخدام الكبريت أبو مفتاح المصنوع في تشيكوسلوفاكيا.. وكان من المألوف أن يتم إرسال الصغار إلى بيوت الجيران كي "يجيبوا النار".. يعطونك عودا خشبيا مشتعلا فتهرع به إلى بيتكم ليكون نواة لنار خاصة بكم.. سبحان الله والحمد لله كنا فين وبقينا فين!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية