لا حاجة للإفاضة في الحديث عن واقعنا المؤلم والمزري الذي نعيشه منذ فترة ليست بالقصيرة، وليس ثمة ما يدعو الى تقرير حقائق المآسي المفزعة وبيان فداحة البلايا المدلهمة، فذاك أمر يدركه كل ذي عينين بما يغني عن سرد الدلائل واستنطاق الشهود! لكن ما يهمنا هو التعرف على الأسباب التي جعلتنا نتردى في هذه المهواة السحيقة، ومع اشراقة كل صباح نكتشف اننا نغوص في الوحل عميقا وتبتعد أيدينا أكثر فأكثر عن الإمساك بطوق النجاة المأمول، ذلك الطوق الذي لم نجد حتى الساعة من يتفضل بقذفه الينا! ورحلة البحث عن جذور البلاء وأسباب التدهور رحلة طويلة بلا ريب، فالانحطاط الذي تعيشه الأمة لم يحدث فجأة بين عشية وضحاها، ولكنها ظروف تكاتفت وآفات تآلفت وأمم تحالفت وكانت النتيجة ما نرى وما نسمع. لن أطيل الديباجة أكثر من هذا! فربما كان التطويل والتكرار أحد أسباب تخلفنا المزمن، غير ان ثمة خيطا رفيعا، تكاد تبصره، ممتدا في ثنايا النكبات التي اجتاحتنا فأكلت الشحم والعظم، ومن عجائب هذا الخيط أنه يمثل عاملا مشتركا بين كل مظاهر تخلفنا، صغيرها وكبيرها، خاصها وعامها، دقيقها وجليلها، فلو تأملت في أي أزمة من أزماتنا فستجد هذا الخيط يلوح لناظريك كسراب لامع في صحراء بني يعرب القاحلة، انه الصدق المفقود! وغياب الصدق متولد عن فقد الشجاعة الأدبية في التصدي للأزمات بواقعية وتواضع، فحين تتأمل في تعامل القياديين أيا كانوا: زعماء، وزراء، مدراء,,, وحتى رؤساء أقسام! مع الأزمات تكتشف ان شؤم تغيب الصدق في التصدي للأزمة يحولها الى كارثة وبيلة! أتريد نماذج تقنعك بذلك؟ لا بأس، خذ مثلا موقف الزعيم العراقي الشاب مقتدى الصدر حين اشتد حصار القوات الأميركية للنجف فأعلن في تصريح ناري انه سيقاتل حتى آخر قطرة من دمه! حين قرعت سمعي عبارة (آخر قطرة) لم تهطل في بيداء القلب (قطرة) شك بأن الرجل لن يقاتل!! ولو قال مثلا: (سأحاول التصدي لهم) لعذرناه! وها قد انتهى الأمر دون ان يريق (مقتدى) من دمه ملء محجم! والمضحك في هذا الأمر المبكي انك تجد الموقف يكرر نفسه لدى فرقاء متناقضين لا جامع بينهم سوى غيبة الصدق، فصدام حسين أطلق التصريح نفسه قبيل سقوط بغداد حين زعم ان الأميركيين سينتحرون على أسوارها، وأنهم لن يتمكنوا من احتلالها ولو بعد 600 عام، وتحولت الأعوام بحساب الواقع الى ساعات أو أرباع ساعات!
انتقل بطرفك الى شأن محلي خاص لترى هذا الخيط الشوكي متغلغلا في فقرات ظهور أزماتنا، فوزارة التربية توشك على استقبال العام الدراسي وتطبيق السلم التعليمي الجديد، وهو بالمناسبة سلم ترقيعي كما شرحت الأمر في مقالة سابقة العام الماضي! وما يعنينا هنا هو التصريحات الواثقة التي تطلقها الوزارة بدءا من الوزير وانتهاء بالخفير (!!) وتعلن انها قد استعدت للأمر كما ينبغي أن يكون الاستعداد، وقد اعتدنا سماع مثل هذه التصريحات الأرشيفية التي يعاد تجديد تاريخها مع مطلع كل عام دراسي، ومع هذا فإن بدايات الأعوام السابقة لم تخل من عثرات ومعوقات، من حيث نقص المدرسين والكتب وغياب الخدمات الأساسية كالماء البارد واستمرار أعمال الصيانة والاصلاح اثناء الدراسة,,, الخ,,, الخ! وفي هذا العام عبء اضافي متمثل بتطبيق السلم الجديد، وهو أمر لا يمكن لأي رجل خارق (سوبرمان) أن يدعي أنه سيكون خلواً من المشكلات والعوائق لكن رجال الوزارة يملكون قدرة خارقة على تناسي تصريحاتهم وبلع وعودهم، وسنرقب الوضع مع إهلالة العام الجديد الذي سيتشرف بلا ريب بقعقعة مقصات المسؤولين، لكن ضيفا واحدا سيغيب مجبرا عن حفل الافتتاح! ألا تعرفونه؟ إنه الـ (ص د ق)!!