يخطئ من يتصوّر أنّ حالة الإنقلاب صفة ملازمة للفعل السياسي في المشهد العربي العام , حيث درجت العادة أن تنقلب زمرة من الجنرالات على زمرة أخرى , أو زمرة من الضباط ورجال المخابرات على السلطة السياسية .
هذه الإنقلابات أو العسكريتاريّا التي طبعت حياتنا السياسية منذ أزيد من نصف قرن تقريبا , فغير الإنقلاب العسكري والسياسي هناك ما يسمى بالإنقلاب الثقافي حيث ينقلب المثقّف أو شبيه المثقّف أو المثيقّف على منطلقاته الإيديولجية و الفكرية و المفاهيمية وأسسّه المعرفية . وهذا و إن دلّ على شيئ فإنمّا يدلّ على هشاشة المبنى الفكري لقطاع كبير من مثقفينا الذين تأرجحوا في آرائهم وأفكارهم وإنتقلوا من النقيض إلى النقيض , كما تفسّر هذه الهشاشة عدم إنتصارنا في المعارك الحضارية الكبرى التي خاضها وما يزال يخوضها واقعنا العربي . وفي يوم من الأيّام و عندما كنت أقيم في بيروت وأعمل في صحافتها كتبت الروائيّة الجزائرية مقالة بعنوان الكتابة لحظة عريّ فرددت عليها بمقالة بعنوان الكتابة لحظة وعي أوضحت فيها أنّ الوعي هو أساس الإبداع والكتابة وليس العري الذي بات ملازما لقطاع كبير من مثقفينا وتحديدا بعد الغارة الأمريكية الكبرى على العالم العربي والإسلامي.
وفي هذا السيّاق لا أشير إلى رهط من المثقفين العراقيين أو مثقفي الدبّابة إذا صحّ التعبير بل أشير إلى قطاعات واسعة من المثقفين في المغرب العربي كما في مشرقه غيروا أفكارهم كما غيروا ستراتهم وبإتجاه المحور الأحادي الذي تجسدّه الولايات المتحدّة الأمريكية .
هناك العديد من المثقفين العراقيين والعرب كانوا محسوبين على المحور الإشتراكي واليساري وبعضهم كان يتعامل مع الستازي – مخابرات ألمانيا الشرقية سابقا – وإنتقلوا فجأة إلى التعامل مع وكالة المخابرات الأمريكية وجعلوا من الولايات المتحدة الأمريكية منقذا ومصلحا وملهما للنهضات بعد أن كانت في مفردات فكرهم تعني الرجعية و الأمبرياليّة و الإستعمار والإستدمار وتفقير الشعوب و الثقافة الرأسمالية و البورجوازيّة , و بدون سابق إنذار بل وبدون مراجعة فكرية دقيقة لمنطلقاتهم الفكرية تحولّ المحور الأمبريالي إلى محور الخير يجب شكره على ما يقدمّه للشعوب من خدمات حضارية جليلة , حتى لو قام هذا المحور بإغتصاب كل النساء العربيات فهو يستحّق الشكر لأنّه يقوم بفعل تحريري تحررّي . وبعد أن كانت الليبيرالية مدرسة إستعمارية وإفرازا طبيعيا للعقل الإستعماري الإستغلالي فقد أصبحت ملاذا للعديد من المثقفين الذين طلقّوا منطلقاتهم الفكرية السابقة و أنضووا تحت ما يسمى بالليبيرالية الجديدة , التي بات بعض المنتسبين إليها يبررون كل الفعال التي تصدر عن أمريكا تماما كما كانوا يبررون سابقا جرائم الإتحاد السوفياتي وخصوصا عندما كان الأمر يتعلق بالمسلكية السياسية لهذا الإتحاد في العالم العربي والإسلامي .
ولا داعي للتذكير هنا بأنّ قسما من المثقفين العرب أيدوا تقسيم فلسطين لأنّ موسكو دعمته في جمعية الأمم المتحدة . وبعض الذين إنتهى بهم المطاف إلى الليبيرالية الجديدة كان ولا يزال شاذا جنسيا ويدعو إلى منح الحريّة للشواذ واللوطيين في العراق على سبيل المثال , وعلى حدّ علمي فإنّ الليبيرالية تعني رفع القيود عن العقل لا عن الشهوات والملذات .
وهذه الحالة الإنقلابية لا نجدها في هذا الفصيل الثقافي الذي خرج من عباءة كارل ماركس و تروتسكي ولينين إلى ثقافة آدم سميت و فرانسيس فوكوياما وغيرهما , بل هناك مثقفون يغيرون جلدهم يوميا لا لشيئ إلا للبحث عن المواقع والمناصب والإمتيازات , ففي الجزائر ترك بعض الروائيين الذين كانوا يكتبون باللغة العربية لغة الضاد وباتوا يكتبون بلغة موليير تملقا للمستعمر الفرنسي القديم الجديد وبحثا عن بعض الجوائز و بحثا عن العالمية المزيفة , حيث يظنّ هذا الفصيل من المثقفين أنّ مجاراة الغرب هو الموصل إلى الشهرة , كما أنّ هناك فصيل من المثقفين وبمجرّد أن قطنوا في الغرب راحوا يرجمون موروثهم الحضاري و حضارتهم العربية والإسلامية و يطالبون بمحاربة الإسلام و الثقافة الغيبية التي غيبّت العقلانية والحداثة , ومع كل ما كالوه لحضارتهم فإنهّم لم يحققوا أدنى شهرة تذكر , إلى درجة أنّ باحثا هولنديّا قال : نحن نعرف هؤلاء المنافقين الفكريين الذين يمدحون حضارتنا ويسبون حضارتهم بحثا عن عطايانا ومنحنا , فالأولى لهم أن يخلصوا لحضارتهم .
و أخطر ما في الإنقلابات الفكرية والثقافية في واقعنا الفكري أنّ الإنتقال الفكري لا يتم بالتقسيط وضمن دوائر ثقافية موجودة ضمن خارطتنا الثقافية , بل إنّ الإنقلاب يتم بنسبة 180 درجة من المرجعية الحمراء إلى المرجعية الأمريكية السوداء , ومن النقيض إلى النقيض , ولا يمكن أن يكون الطغيان والإستبداد والديكتاتورية هي السبب في هذا التغير نحو الأسوأ , فأنا بإمكاني أن أستمّر في قولي بأنّ صدام طاغية ومجرم وسفاح وكذلك كل الطغاة في العالم العربي دون أن أترك منطلقاتي ومسلماتي وبديهياتي والتي من مقوماتها أنّ أمريكا لا يمكن أن تريد لي الخير ولأمتي , فالمصلحة الأمريكية هي أولا وثانيا وثالثا .
وعلى صعيد آخر ماذا قدم لنا الإنقلابيون و الإستئصاليون الفكريون في العالم العربي , فمبناهم الفكري هشّ ولا ينطلقون من أسس فكرية صلبة ولا من أرضية ثقافية حقيقية , بقدر ما يرددون مجموعة من الشعارات سبق للثورات الغربية أن رددتها , فهم يطالبون بالعدل و أنا أطالب به ومستعد أن أموت دون ذلك , لكن الفرق أنّهم يقولون أنّ هذا العدل تقيمه أمريكا وأنا أقول تقيمه أمتي , وبالأمس القريب كانوا يقولون أن موسكو هي التي تقيمه .
إنّ المثقف الذي ينتقل من مرجعية إلى أخرى ومن محور إلى آخر مستعد أن يبيع أمته لمن يدفع أكثر تماما كما تحوّل فصيل من مثقفينا من التعامل مع الستازي إلى التعامل مع المخابرات الأمريكية , ولو أصاب أمريكا الوهن وإنهارت كالإتحاد السوفياتي وبرزت الموزمبيق كقوة عظمى لرفعوا لواء الموزمبيق , وهذا الفصيل من المثقفين لا فرق بينه وبين الراقصة التي تغيّر ثيابها المزركشة في كل وصلة تؤديها , ثمّ أليس هم أقرب إلى ثقافة الرقص والهزّ منه إلى ثقافة البناء والنصّ !!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية