في بهو احد المصارف اكتظت جموع من الناس بانتظار دورهم في انجاز معاملات الاكتتاب في اسهم احدى الشركات الجديدة، وكان من بين هؤلاء عدد ليس بالقليل من كبار السن والزمن المنهكين الذين لا يقوون على الحركة الا بشق الانفس، وبينما كان الموظف المختص ينادي اصحاب الارقام التي حانت نوبتها للتسجيل كان احد هؤلاء المسنين يؤدي دور صدى صوت الموظف فيكرر الارقام نفسها، بل كان يزيد من عنده ذكر ارقام لاحقة ليستعجل نوبته، مما جعله محط انظار الحضور، ومعلوم ان الشيخوخة تعيد المرء الى اخلاق الطفولة وطبائع الصبية، ولذا فلم يكن الشيخ المسن ذو اللحية البيضاء يقيم ادنى وزن لنظرات المبحلقين المستغربين من عجلته ولهفته الكبيرتين، وحين نادى الموظف برقمه الخاص قفز المسن من مقعده بخفة ورشاقة وكأنه غلام في السابعة عشرة من عمره، وكانت عصاه التي يعتمد عليها ذات ايقاع مميز حين تلامس البلاط الرخامي الصقيل، كان مشهدا ظريفا للغاية، ومما زاده ظرافة ان صاحبنا حين انجز مهمته التي ارهقت الموظف كثيرا خرج من المكتب بأناة وتؤدة تناسب وقار الشيخوخة وضعف البنية وتنبىء عن ارتياح كبير بزوال القلق من خوف فوات موعد الاكتتاب!!. تذكرت حينها الحديث النبوي الكريم (يشيب ابن ادم وتشب منه خصلتان: الحرص وطول الامل) فقد كان ذلك الشيخ الهرم نموذجا مطابقا للواقع البشري الذي اخبر عنه الحديث، فهو قد جاوز السبعين بسنين وبلغ الغاية في الحرص والشره وكأنه سيستقبل سبعين اخرى، والمثير فعلا ان مثل هذه الشركات الوليدة تحتاج لسنين عديدة حتى تؤتي اكلها وتحقق اسهمها ارباحا مجزية، فهل قدر ذلك الهرم في نفسه انه مدرك ذلك الميعاد؟وليت شعري ان ادركه فعلا ففي اي متعة دنيوية سيصرفه وقد امست حواسه الخمس وقدراته الجسدية عاجزة عن القيام بأدنى مجهود ولو كان مجرد مضغ قطعة لحم نضيجة!
ترى ما الذي يدفع الانسان في مثل هذه السن المتأخرة الى مزيد من الحرص على الدنيا والاسراف في نسج خيوط ذهبية من الامال الممتدة لما بعد الموت؟ اليس حرياً به بعد هذه الفترة الطويلة التي عاشها في معترك الحياة ان يزهد فيها لما رآه من طبائعها المتقلبة بأهلها ونقضها لما ابرموه معها من عهود ومواثيق وخيانتها لمن ركنوا إليها وعولوا على حبها؟ أليس الشيب نذير صدق مؤذن بأفول نجوم الحياة واقتراب المنية المحتومة؟ومع تقدم العمر تضعف الحواس وتنطفئ جذوة الشهوات ولا يعود للحياة بريقها الذي يسحر الالباب ويأسر القلوب ايام الصبا والشبيبة، لكن الناس لا ينظرون لهذا الجانب الواعظ نظرة اعتبار وتفكر، فهم على النقيض من ذلك يسعون للتملص من سطوة الحقائق مجتهدين في مغالطة الوقائع، بل ربما اتخذوها ذريعة لما هم فيه من حرص متأجج وامل طامح، فإذا ما اوشك رصيد العمر على النفاد صاح لسان حالهم قائلا: عليكم ان تستغلوا ما تبقى من صبابة الاعمار وسؤر الايام لتحقيق ما لم تتمكنوا من الفوز به في سنينكم السوالف، واذا كان ما تبقى اقل بلا ريب مما فات فليس امامكم سوى اغتنام الفرصة الاخيرة!! انهم تماما كخيول السبق التي تحاول ان تدخر طاقتها للمرحلة الاخيرة منه لتتمكن من احراز قصبة لكن ثمة فارقا مهما، فخيول السبق قادرة على التصرف بقدراتها اما نحن فإننا اضعف ما نكون حين نوشك على بلوغ الغاية المحتومة، ووقتها سيحرز الموت قصب السبق!!.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية