حين نستذكر سير الراحلين عن هذه الدار الفانية من الأحبة والخلاّن فإن أول ما يلوح لنا على صفحات بحر الذاكرة تلك الصورة المميزة لكل منهم، ليست الصورة الجسدية التي تكفلت آلات التصوير الدقيقة بحفظ رسومها بأدق تفاصيلها، بل تلك القيمة الخلقية التي تقفز إلى الذهن حين ترن في الأذن حروف أسمائهم الغالية، فتنبعث تلك القيمة الجميلة التي تمثل صورة الروح الشفيفة البيضاء لكل منهم، وحين يذكر اسم الأخ الشيخ عبدالعزيز بن صالح الهده- رحمه الله- فإن معاني الطيبة النقية والإخاء الصادق والظرف الآسر تمثل أمام ناظري، مذكرة إياي بعظم الرزية وفداحة المصاب! عرفته أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي فقد كان طالبا بالصف الرابع الثانوي بينما كنت في الصف الأول، ووقتها كانت شمس الصحوة الإسلامية المباركة تبزغ رويدا رويدا على هذه الديار، ثم جمعتنا بعد ذلك الدروس والمحاضرات وتوثق بيننا عقد اخاء صادق, كان عبدالعزيز مثال الداعية الواعي الذي يدرك بفطنته ان الابتسامة والبشاشة خير وسيلة للولوج إلى قلوب الناس، فمتى ما نجح الداعية في تحقيق ذلك اكتسب ثقة المدعوين فتقبلوا نصائحه وأصاخوا إلى بيانه فأجرى الله على يديه أنوار الهداية لمن شاء، وقد تسلح بالعلم النافع المؤصل حين أتم دراسته بالجامعة الاسلامية بالمدينة الطيبة، وشاء الله أن نلتقي بعد ذلك في مدرسة ثانوية أخرى معلمين بعد أن كنا تلميذين، ورأيت وقتها من تعامله مع الطلاب العجب العجاب، فقد كان شديدا في ضبط النظام المدرسي ومعاقبة مخالفيه، وكنت أحسب أن هذه الشدة المفرطة ستجعله مكروها ممقوتا لديهم، لكن الغريب أنه بحسن تعامله وبراعة التوظيف التربوي لظرافته الجميلة وروحه المرحة أضحى بينهم محبوبا مألوفا مسموع الكلمة لا يردون له أمرا حبا وتبجيلا.
كان الفقيد شعلة من نشاط متقد في القيام بأعباء الدعوة إلى الله تعالى، فله جهود ملحوظة مشهودة تجهر بتفننه في هذا المجال الذي ولج ميادينه المختلفة من الخطابة والكتابة والمحاضرات بذلا وعطاء دعوة وتعليما، وكان ينتظره لولا حلول الاجل جدول رمضاني حافل لكن,,, حكم المنية في البرية جار! وفي سنيه الأخيرة اشتد به داء السكر المرهق، فأنحله بعد سمن وأذبله عقب نضارة، كان وقتها قد بلغ الأربعين التي يبلغ المرء بها أشده لكن العلة الفاتكة فعلت به ما تعجز عن فعله العقود المتطاولة، ومع هذا فإن نشاطه الدعوي لم يتأثر قط، فلئن أنهك الداء بدنه إلا أنه لم يمس همته العالية وحماسته الفياضة بسوء!
وكانت سلامة الصدر سببا جوهريا في اكتساب محبة الناس له، فمع الاختلافات التي عاشها التيار السلفي في العقد الأخير فإن عبدالعزيز كان معتدلا فيما يتخذه من مواقف متزنا في ردود أفعاله حين نأى بنفسه عن معارك جانبية دعي اليها من قبل الخصماء المختلفين، وهذا ما جعله يحل بمنجاة من عواقب الاصطراع الشئيمة الكريهة، فإن شككت في حب الناس له فدونك مشهد جنازته الحافلة التي لم تشهد مقبرة الجهراء من قبل مثلها، إذ ازدحمت الطريق المؤدية اليها بجموع المشيعين مما اضطر كثيرون إلى ركن سياراتهم على مسافة بعيدة من المقبرة لشدة الزحام، ورأينا عددا من السيارات وقد علقت اطاراتها في الرمال بعد أن ضاقت الطرق المسفلتة بالجموع وخشي الناس ان تفوتهم الصلاة عليه وتشييع جنازته، وكفى بذلك دليلا عفويا صادقا على موقع الفقيد من قلوب محبيه ومريديه، رحم الله أبا يوسف وأسكنه الفردوس الأعلى من جنانه وأسبغ علينا ثوب الصبر والسلوان.