تحدثت أمس بحرقة عن الـ12 مليار ريال التي يحرقها المدخنون السعوديون سنويا، وأعرف أن من يقومون بحرق ذلك المبلغ الضخم يعتبرون أن المسألة تستأهل، فالمهم عندهم هو أن السيجارة تجعل المزاج رائقا والأعصاب هادئة، طيب هناك كذا مليار آدمي على وجه الأرض لا يدخنون ولا يعانون من انفلات الأعصاب والتوتر.. بعبارة أخرى فإن السجائر هو الذي يسبب التوتر والنرفزة، بمعنى أنه لو لم تكن أو تصبح مدخنا لما جعلك الحرمان من التدخين عصبيا،.. ولأنني أعرف أن الإنسان بطبعه يضيق بالوعظ والنصائح، لأنها تعطيه الإحساس بأنه مقصر أو قاصر وأن الناصح أو الواعظ يقوم بدور "الوصيّ"، فإنني أقول للمدخنين إنني صاحب تجربة ضخمة في مجال التدخين، وقد كتبت عشرات المرات عن أنني بدأت التدخين بنوع من التبغ يُزرع عندنا في شمال السودان، رائحته أسوأ من رائحة الجورب (الشُرّاب) المحترق، ثم مررت بطفرة حسبتها حضارية واستخدمت سجائر ينتجه مصنع محلي، وكنت طوال استخدامي لذلك السجائر أصاب بالسعال الدجاجي ست مرات في السنة وتلت ذلك طفرة أخرى باللجوء إلى سجائر محلية قيل إنها جيدة، ولكنها كانت أيضاً من النوع المسيل للدموع بل وكانت تنفجر في بعض الأحيان وتتصاعد منها شرارات كما في الألعاب النارية.. ثم جاءت الطفرة البرجوازية بدخول عالم سجائر روثمانز (وليس روثمان) وبنسون آند هيدجز، وكما هو معروف فإن السوداني يعتقد أن هذين الصنفين من السجائر ومعهما معجون الأسنان سيجنال وسيارات تويوتا كريسيدا وكورولا صنعت جميعا من أجلهم فقط، حتى صارت تلك السلع جزءا مكملا للشخصية السودانية،.. بدرجة أن شائعات راجت في أوساط الجالية السودانية في دولة قطر حيث أقيم وأعمل، بأنني صرت عميلا للمخابرات المصرية لأنني اشتريت سيارة بيجو (فرنسية الصنع).. المهم يا سادة أنني وفي مطلع ثمانينات القرن الماضي لجأت إلى الطبيب لعلة ما أصبت بها، فإذا به يفاجئني بالقول إنني أعاني من ارتفاع شديد في ضغط الدم! صحت: الله أكبر،.. هذا نصيبي من "الورثة" فقد كان والدي عباس رحمه الله يعاني من ذلك المرض.. وبدأت في تعاطي عقار اسمه إنديرال، أصابني بوهن شديد، وانتقلت إلى التنورمين، وكنت مواظبا على تعاطي تلك العقاقير، ولكنني لم أكن مواظبا على اتباع توجيهات الطبيب القاضية بالتوقف عن التدخين.. مارست الفهلوة وقمت بتخفيض عدد السجائر التي أتعاطاها يوميا، ولكن ضغط الدم لم ينخفض.. فخفضت عدد السجائر مرة أخرى .. برضو مفيش فايدة.. لم أفكر في التوقف عن التدخين لأنني كنت مقتنعا بأنني سأرتكب جريمة لو حرمت نفسي من التبغ، فقد كان عدم توفر السجائر عندي في لحظات معينة لا تزيد على بضع دقائق يصيبني بتوتر وشد عصبي.. ولكن كان لابد مما ليس منه بد، وتوقفت عن التدخين.. ولم أرتكب جريمة ولم أطلق أم الجعافر التي كانت تطن وتزن في أذني على مدى عدة أعوام كي أتوقف عن التدخين.. وبعد نحو شهر من الحرمان من التبغ كان ضغط الدم عندي قد عاد إلى معدلاته الطبيعية.. وظللت على مدى سنوات أدخن سيجارة مرة في الشهر أو الشهرين.. وأعترف أن ذلك ضعف في الإرادة واستهتار بنعمة الحياة.. ولكن المهم هو أنني لم أعد عبدا للنيكوتين ولم يعد حلقي يصدر أصواتاً ومواد مقرفة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية