إن ما يعلنه الأمريكيون بصراحة أنهم يريدون إصلاحا في مناهج التربية الدينية التي يرون أنها تساهم في ترويج الكراهية والحقد اتجاه الأمريكيين والغرب عموما. وهي بالتالي أي المناهج الدينية تغرس ثقافة الإرهاب في العالمين العربي والإسلامي. فمثلا جاء على لسان (كولين باول) وزير الخارجية السابق في سياق إعلانة مبادرة الشرق الأوسط الكبير (2002) أن إصلاح التعليم يعتبر مدخلا رئيسا لترسيخ ثقافة الديموقراطية في الوطن العربي بما فيه تعليم المرأة. وواكب ذلك الدعوات الأمريكية لإصلاح التعليم الديني ومراجعة مناهج المدارس الدينية واللغة العربية. وتحدث بمثل ذلك أيضا وزير الحرب الأمريكي (دونالد رامسفيلد) حيث رأى ضرورة كسب ما سماه (حرب العقول والقلوب والأفكار) بتغيير المناهج الدينية للحد من ثقافة الإرهاب. وقالت أيضا المسؤولة عن تنفيذ مبادرة (الشرق الأوسط الكبير) أن أمريكا تسعى إلى تغيير المناهج التعليمية بما فيها الدينية بما يضمن التخلص من الحقد والتحريض والكراهية والعنف في المنطقة وتكريس التسامح والإخاء بين الشعوب. كلام معسول وجميل لا غبار عليه سوى أنه حق يراد به باطل. ثم قام حكامنا الأشاوس بتلقف هذه المقولات صراحة تارة وتلميحا تارة أخرى. وليس تصريحات أحدهم ببعيدة عنا عندما قال:"علينا أن نحلق لأنفسنا قبل أن يحلقوا لنا."
وبغض النظر عما تطلقه أمريكا والغرب من مبادرات وتَمَنّع (بفتح التاء والميم مع ضم وتشديد النون) الأنظمة العربية ظاهريا عن الاستجابة للإملاءات الأمريكية، نحن مع إصلاح مناهج وأنظمة التعليم وتطويرها بما يكفل للمجتمعات العربية خطابا دينيا متجددا يتساوق مع روح العصر ومع تعليم يتيح للأجيال المتعاقبة القدرة على التفكير النقدي والتفكير المنهجي العلمي. أمّا اقتصار الإصلاح على عدد حصص التربية الدينية وحصص اللغة وبعض النصوص القرآنية فما هو إلا ذرٌّ للرماد في العيون واستجابة للإملاءات الأمريكية. نعم هناك ضرورة تستدعي النظر في مناهجنا بصورة عامة لتحديثها كي تصبح مواكبة للقرن الحادي والعشرين: قرن المعلومات والتكنولوجيا. وهذا لن يحدث إذا لم ندخل إلى مناهجنا ماهية وأهداف التعليم الإنساني.
لقد كشفت تقارير الأمم المتحدة، مع اختلاف على جزئيات كثيرة، التي صدرت تباعا وآخرها تقرير التنمية البشرية لسنة 2003 أن الوطن العربي يواجه مشكلة حقيقية في نقص في المجالات العلمية حيت لا تتجاوز نسبة التعليم في هذا المجال أكثر من 7% وهي نسبة تعكس ضحالة الاهتمام بالعلوم والثقافة في المجتمعات العربية. وتواجه هذه المجتمعات أيضا نقصا كبيرا في القوى العاملة الفنية وتواجه عجزا كبيرا في التعليم الفني والصناعي والتجاري، ناهيك عن وجود 70 مليون أمي في الوطن العربي. فالسؤال هو ألا تبعث هذه الأمور على إعادة النظر في مناهجنا وأنظمتنا التعليمية؟
وهنا يجب الإقرار أن أنظمة التعليم في جميع أنحاء الوطن العربي متخلفة في أهدافها وأساليبها واستراتجياتها وارتباطها بالحياة. لذا تستحق منا وقفة كبيرة يتخللها التطوير والتحديث في اتجاه التعليم الإنساني الذي يتضمن تعليم المهارات الضرورية لتنمية أساليب وأنماط التفكير الناقد والإبداعي والديموقراطي الحر وتقليص الفجوة العلمية والتقنية بيننا وبين من سبقونا من الأمم الأخرى. ومن هنا تنبع ضرورة التركيز على مجالات التعليم التقني والعلمي التي تعتبر سلاح العصر والمؤهل لدخول الألفية الثالثة بتحديات الثورة المعلوماتية والتقنية.
ولكن دعونا نطرح السؤال على أنفسنا ما نوع الإنسان الذي نريده في المستقبل وكيف يحيا ويتحدى المتغيرات العالمية في الحاضر والمستقبل؟ وهذا بالطبع ليس سؤالا أكاديميا ولكنه سؤال مهم لكل من يريد أن يعيش ويحيا في عالم سريع التغير. وكما أن الوقت يتقدم حثيثا وبقوة إلى الأمام فإن آفاقا جديدة تتفتح كل يوم تتطلب من الإنسان أن يكون قادرا على التخطيط لمساره ومستقبله كي لا يتخلف ويتلاشى بفعل قوى ليس له قبل بها. وأمثلة هذه الآفاق الجديدة عديدة منها العولمة المتوحشة التي تجتاح العالم بقيادة الإمبراطورية الأمريكية والتي يتخللها الإنجازات التكنولوجية التي جعلت من العالم قرية صغيرة. لقد نشأت شبكات كمبيوتر عالمية تصل الملايين ببعضهم البعض بطريقة لم تكن مفهومة في الماضي. فيستطيع الإنسان الآن التواصل والمشاركة في نشاطات تغمرالعالم في وقت قياسي. يستطيع الحصول على المعلومات وأن ينقلها بنقرة إصبع من خلال الكمبيوتر الذي انتشر انتشارا واسعا فأصبح متوفرا لكثير من البشر. والمثال الآخر، الذي يبدو متناقضا مع المحلية ضمن موجة العولمة وهو كلما أصبحت ثقافات العالم أكثر تشابها بسبب ازدياد الاتصالات ما بين الثقافات أصبح الشعور بالحاجة إلى تأكيد هوية الجماعة أو الفرد أكثر من ذي قبل. وبسبب هذه التجاذبات المتعاكسة أصبحت الحاجة إلى الإحساس بالاتجاه والهدف أكثر إلحاحا.
وعلى هذا الأساس يحتاج الناس إلى التسلح بقدرات جديدة تساعدهم على الدخول في فجر الألفية الثالثة وعلى تحديد أهدافهم الإنسانية وعلى التخطيط الاستراتيجي السليم ضمن هذا الفضاء العالمي. والحاجة إلى تحديد القدرات الجديدة هي مهمة ومسؤولية الكبار تجاه الأجيال المتعاقبة. التعليم ضروري ولكن ليس أي تعليم يستطيع الوصول إلى الأهداف. وببساطة هو التعليم الحديث القادر على مساعدة الصغار والشباب على مواجهة المستقبل بثقة وفاعلية. إنها مهمة جيل الكبار؛ إنه دين في أعناقهم للأطفال والشباب في سبيل منفعة الإنسانية جمعاء حتى يتسلحوا بأفضل ما يكون ليخوضوا بالتالي عالم الغد بثقة وطمأنينة.
التعليم الجيد يجب أن يبنى على أساس أنه ليس هناك شيء أبدي ومؤكد طوال الوقت وأن هناك جواب لكل سؤال. وهكذا فإن هدف التعليم هو تسليح المتعلم بالقدرة على التفكير المنطقي والتفكير الناقد والقدرة على استشراف المستقبل أي التعليم الإنساني الحق. فالمهم أن نتجه إلى التعليم الإنساني الذي يلبي احتياجات واهتمامات الأطفال والشباب الذي يركز وينصب على نمو وتطور الشخصية. وبذلك نضمن استمرارية التعلم والتعليم طيلة دورة الحياة بتوجيه ذاتي في بيئة صحية دون تهديد من أي اتجاه ومن أي نوع.
إن عملية التعلم والتعليم ليس فقط من أجل حياة أفضل أو وظيفة أفضل أو أنها كما تتبجح الحكومات على أنها ثروة وطنية ولكن يجب أن تكون هذه العملية من أجل إثراء الروح الإنسانية ونوعية الحياة ومن أجل الصحة الاجتماعية ونواة لمجتمع ديموقراطي.
لأول وهلة تبدو فكرة التخطيط لمناهج تعد الأجيال للمستقبل أنها محصنة من الانتقاد والتفنيد. وفي نهاية المطاف التعليم هو ليس للحاضر فقط. سيعيش الأطفال في عالم يختلف عن عالمنا في الوقت الراهن. وعلى المدرسة والنظم التعليمية أن تساعد الأطفال على التعامل بل التفاعل مع هذا العالم الجديد. ومع وجود مثل هذه الفكرة التي تبدو أنها محصنة كما يبدو للوهلة الأولى، هل هناك من أحد بين ظهرانينا يستطيع أن يتنبأ أو يخبرنا ما يحمله المستقبل لأجيالنا؟ فالتنبؤات حول أساليب الحياة والعوامل الاجتماعية والمشاكل التي تصادف الأطفال في المستقبل لهي عصيبة ومقلقة حقا. فمن كان يستطيع منذ عشرين سنة مثلا أن يتنبأ التحديات التي نواجهها نحن الكبار اليوم؟ وإذا كان المستقبل غير واضح ويصعب إدراكه أو فهمه فعلى أي أساس نخطط المناهج والتعليم؟ ومن منظور شخصي بحت نستطيع أن نعد الطلاب الإعداد الأمثل للمستقبل بمساعدتهم على التفاعل مع الحاضر.
فالمناهج التي تؤسس على مفهوم الإعداد التربوي غالبا ما تكون غير ذات صلة من الناحية العقلية أو أنها لا تتعدى عن كونها أطواق قفز يتدرب الأطفال على القفز من خلالها كي يتقدموا إلى الأمام. إن أكثر ما نفعله نحن الآن في مدارسنا هو تدريب الأطفال على القفز من الأطواق المتعددة الألوان والمتنوعة الأحجام والألوان hula-hoops دونما إدراك لأهداف المستقبل التي تؤهلهم لدخول معترك الحياة وخضم المشاكل التي تنصب على الرؤوس من كل حدب وصوب في زمن العولمة المتوحشة.
ولكنني كتربوي صاحب تجربة ممتدة في التعليم وفي تطوير المناهج أرغب في عملية تعليم حقيقية وأصيلة تعنى بحاضر الطلاب؛ تتحداهم بطرح المشاكل والمسائل والأفكار التي يجدون فيها متعة التعلم. أريد أن أُقَوٍّم هذه العملية بعمقها وبمدى ارتباطها بحياة الطلاب.
إن التعلم، في المقام الأول، نشاط داخلي. لا يقتصر على النظريات والمواضيع الأكاديمية. إنه يتصل بالقل والجسم معا ويحتاج إلى دعوة الدارسين إلى اكتشاف أنفسهم ليبتكروا معنى جديدا للبناء الشخصي حيث يدفعهم ذلك إلى التساؤل يوميا. إن التعلم عملية دائمة الحياة. إنها تمس شغاف العقل والقلب معا. وبالتالي يمكن للمدرسة أن تخلق، من خلال التجارب التعليمية والتربوية والعاطفية والفلسفية والروحية، مجتمعا صحيا حيث يستطيع كل فرد أن يتعلم ويفكر وينمو ويتطور بحرية ودون خوف أو ألم. يتعلم الأطفال المعنى العميق والرغبة وحب كل شيء يقومون بعمله وبالتالي يمنحهم الثقة للتعبير على المستوى المطلوب في العلاقات الإنسانية. وعندما يتعلم الأطفال في بيئة ومناخ غير تنافسي يكتشفون الحافز الذاتي المتجدد ويظهر مع تنامي ذكائه العقلي والعاطفي أثناء تزويدهم بالمعرفة والمهارات اللازمة للحياة في عالم معقد ومتغير كعالمنا اليوم نكون نزودهم في نفس الوقت بمناخ مفعم بالمسؤولية التي تثير فيهم شعورا بالثقة بالنفس. وبالتالي يؤدي هذا إلى الشعور ببدايات الإنجاز الذاتي وفهم الطاقة غير المحدودة للإبداع لديهم.
وبطريقة موازية للنمو الأكاديمي يتم التأكيد على النمو الشخصي للأفراد. يجب أن يتعلموا كيف يشعرون بمشاعر بالآخرين وكيف يهتمون بهم والتعاطف معهم ويعبرون عن ذلك بطرق مناسبة. وكي نستطيع تحقيق ذلك، علينا نحن الكبار أن نكون قدوة لهم ونمارس هذه الصفات بأنفسنا ونهيء البيئة المناسبة للتعلم من خلال تفاعلهم مع من حولهم.
بالطبع وبغض النظر عن رؤية الأفراد للمستقبل فإن لهم اعتقادات مختلفة حول الضروري والمهم الذي يتناوله تعليم الطلاب هنا والآن. فعلى سبيل المثال، العديد من التربويين والمختصين يرون أن تطور العقلية والفكر النقديين من أهم أهداف العملية التعليمية على الإطلاق ولكن بعض الآباء قد يرون عدم ضرورة هذا الهدف لأن العقلية الناقدة قد تتحدى القيم السائدة التى تربى عليها الأطفال. وبمعنى آخر أنه حتى إذا تم الاتفاق على أن التعليم يجب أن يخاطب الحاضر تظل مكونات الإعداد المناسب لمثل هذا التعليم مختلف عليها. وهذا هو شأن الديموقراطية كما ينبغي أن تكون عليه. والشيء الآخر الذي نحتاجه هو منهاج بمنظومة أهداف يصلح للجميع ويرضى عنها الجميع. ومثل هذا التنوع يعد إثراء للتعليم والثقافة. والآن ما هي الأهداف التي يمكن أن تكون مناسبة لمدارسنا ونظمنا التعليمية في ظل وجود الحرية والديموقراطية؟ وبمعنى آخر ماذا يجب أن يتعلم أولادنا في مناخ تسوده الحرية والديموقراطية؟
من بين مهارات التعليم الإنساني التي لا يختلف عليها اثنان في كل المجتمعات إذا ما أريد تنمية بشرية حقة لتشكيل أجيال تتمتع بكل إمكانيات مواجهة الحياة ومشاكلها ما يلي:
يمتلك الفرد هذه المهارة عندما يشكل رؤى ويستطيع استخدامها في الطاقة التحليلية لديه لإيجاد حلول جديدة لمشاكل أو لإبداع أو ابتكار أفكار جديدة. فهذه المهارة أصبحت هامة جدا وذات علاقة واضحة وستستمر كذلك في طبيعة العالم الذي نعيشه اليوم وغدا. وعندما تكون بعض الأشياء ثابتة ودائمة والتغيير طريقة حياة فالقدرة على إيجاد اتجاهات جديدة تكون أصيلة ومرغوب فيها. وهكذا تأتي أهمية هذه المهارة لأن الأفراد والجماعات يحتاجون إلى تشكيل طريقهم نحو المستقبل ولكي يستطيعوا ذلك يحتاجون إلى رؤية الأشياء الموجودة حاليا لاستشراف المستقبل.
إن من أفضل الطرق لإعداد الأطفال للمستقبل التركيز على الحاضر بطريقة تساعدهم على التعامل والتفاعل مع المشاكل التي تحتمل حلولا متعددة. فالمشاكل التي تهم المجتمع لا يمكن حلها بصيغة أو معادلة رياضية أو على قاعدة واحدة. إن ذلك يتطلب حشد معظم القدرات الإنسانية غير العادية التي يمكن تسميتها "القدرة على النقد وإصدار الحكم" Judgment إن هذه القدرة ليست مجرد امتياز أو تفضيل وإنما هي القدرة على تقديم الأسباب للاختيارات التي نصنعها. إن القدرة النقدية الجيدة تتطلب أسبابا جيدة. إن الرغبة والفطنة والحنكة من بين القدرات التي تجعل من القرار والحكم الصادر الجيد ممكنا والتي يمكن للمدرسة أن تغرسها عند الطلاب.
ولغرس هذه القيمة، يحتاج المنهاج التعليمي إلى أن يشتمل على المشاكل والمسائل التي تسمح بالمحاورة لاتخاذ القرار أو الانتقاد أو إصدار الأحكام. ومثل هذه المسائل تتطلب تداولا وتسمح بإمكانية اتخاذ قرارات وإصدار أحكام متعددة. وهنا أشدد على اتخاذ "قرارات" وليس "حلولا". ومشاكل بهذا الحجم والضخامة تحتاج عادة إلى النظر إليها من زوايا متعددة ويمكن حلها فقط مؤقتا. لأنه إذا كان الحل مقبولا في فترة زمنية معينة فمن المحتمل ألا يكون مقبولا في زمن آخر. يجب أن نعلم أطفالنا على التحاور والتشاور وإبداء الرأي بحرية وبمسؤولية وعلى اتخاذ القرارات المناسبة وأن القرارات والتداول بشأنها متلازمان.
أما المهارة الأخرى التي تحتاج المدرسة إلى تنميتها وتطويرها لدى الطلاب فهي القدرة على نقد الأفكار والاستمتاع بما يتم اكتشافه أو التوصل إلى ما يمكن تنفيذه من هذه الأفكار. ولتطوير وتنمية هذه القدرة، يجب أن يتم تقديم الأفكار الهامة للطلاب. فمنذ عقود خلت، لقد حدد (جيروم برونر) Jerome Bruner ثلاثة أسئلة تقود إلى تطوير المنهاج التعليمي في هذا الاتجاه أي التفكير الناقد: ما هو الإنسان الفرد؟ كيف وصل إلى ما هو عليه في هذا الاتجاه؟ وماذا يجعله أكثر إنسانية؟ ويمكن استكشاف هذه الأفكار الثلاثة ويتم مناقشتها في الصف في حدود ما يتطلبه المستوى العمري للطلاب.
ومن هذه الأفكار الكبيرة هي الأفكار المتحركة التي تنتقل بالطلاب إلى أماكن عديدة. فمثلا فكرة التبديل العشوائي والانتقاء الطبيعي والعلاقة بين الثقافة والشخصية وحماية حقوق الأقليات في بلاد تحكمها الأكثرية هي أمثلة لأفكار يمكن للطلاب أن يناقشوها ويتفحصوها ويوضحوها. وكل فكرة من هذه الأفكار لا تستهلك ولا تنتهي وهي مستمرة وعلى الطلاب أن يفككوا ويحللوا الاستنتاجات ويطبقوها اليوم وليس غدا.
إنها القدرة على هضم المعلومات الكثيرة التي تفد علينا من كل اتجاه في عالم اليوم. مهارة التفكير الناقد تنصب على مقدرة الفرد على الحكم على المعلومات الواردة من حيث الجودة من عدمها. وهي توصف على أنها القدرة على تعلق الفرد بالأشياء من حوله إلى أن توجد دلائل أخرى مناسبة تجعله يحكم ويفكر من جديد. ولذا لا تصلح هذه المهارة إلاّ في المجتمعات الديموقراطية حيث يشارك الفرد في حكم مجتمعه وهذا واجب يتطلب درجة كبيرة من القدرة على التفكير الناقد لتمييز الحقائق من غيرها. وكذلك القدرة على تمييز الظاهر من الواقع الحقيقي من خلال المصادر المتاحة. وبما أن العالم يتجه الآن نحو الديموقراطية يجب أن ندخل مهارات التفكير النقدي في مناهج التعليم كي يستطيع أولادنا ممارسة التفكير النقدي بكل حرية ودون عقد الخوف في عالم يعج بالمتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية.
على المدرسة أن تغرس أشكالا متعددة من الثقافة. والثقافة عادة ما تعتمد على مهارتي القراءة والكتابة وفي بعض الأحيان تضاف إليهما مهارة الحساب والأعداد. ولكن المعنى هنا هو القدرة على تفكيك وتحليل المعاني لأي رموز وأشكال تستخدم في الثقافة. على سبيل المثال، يمكن لفرد ما أن يكون مثقفا بقدرته على تجربة واستنتاج شكل موسيقي من الفنون البصرية أو من الرقص.
إن حياتنا ثرية بالقدرات على تأمين المعاني المتعددة والمتنوعة. والمدرسة التي تهمل بعض الأشكال الثقافية مثل الفنون تشجع وتشيع بذلك الأمية الثقافية بين طلابها فيصبحون أميين ثقافيا وفنيا ويفتقدون التذوق الفني والجمالي ويتركون ذلك للآخرين. وبالطبع ربما يظل هؤلاء الطلاب يستجيبون لأشكال من الفنون الشعبية ولا نتوقع منهم أن يستجيبوا لأشكال فنية أكثر تعقيدا وأكثر تقليدية والتي تعتبر في مصاف منجزات فنية متقدمة. فالقدرة على تجربة هذه الأشكال الفنية مع وجود المواهب تتطلب تعليما وتدريبا عاليين.
وعودة إلى الهدف الأوسع والأشمل نستطيع التعرف على المجالات التي تفتقدها بعض مناهجنا الدراسية هي البرامج التي تركز أساسا على الاستخدامات العادية للغة أو الاستخدام الرسمي للأعداد التي يمكن أن تحد من قدرة الطلاب على توفير تجربة هادفة من الأشكال التمثيلية الأخرى.
والأشكال التمثيلية المختلفة توقظ أو تبعث وتطور أشكالا وتنفي أشكال التفكير التي تساهم في غرس ما يسمى بالعقل. والمناهج التي تستثني مثل هذه المصادر تكون بذلك قد أهملت تطور العقل إلى أقصى قدراته. ومع أن الدماغ هو عضوي إلا أنه في المقام الأول هو شكل من أشكال الإنجاز الثقافي. فالمناهج التي تزود الطلاب بالفرص لمجابهة الأشكال التمثيلية ليس فقط أنها تسبب أو تولد المعنى المناسب لكل شكل وإنما أيضا هي تساعد على نمو العقل mind .
ولتوضيح هذه الفكرة أكثر، يمكننا القول بأن الهدف الرئيس للتعليم الأساسي هو إتاحة القدرة للصغار على تعلم كيف يكتشفون أنفسهم أي يتعلمون كيف يشكلون عقولهم الخاصة بهم. إن تعلم الثقافة لا يقدم المتعة والتسلية فقط وإنما يقوم بإعادة الابتكار والإبداع وما يفيد اكتشافه خلال الحياة هو النفس.
ا
ومن أهداف التعليم أيضا تزويد الطلاب بفرص تعليمهم العمل مع الآخرين جماعيا وتعاونيا وبانسجام مع الآخرين. ومثل هذا التعليم يمكن أن يعمل فرقا في حياة الطلاب في المكان والآن أي في الحاضر. يميل البعض إلى الاعتقاد بأن المدرسة لا تتيح إلا الأداء الفردي فقط. وتحتاج أيضا إلى أن نفكر في المدرسة على أنها تساعد الطلاب على تعلم العمل التعاوني مع الآخرين وخصوصا مع الطلاب المختلفين عنهم ثقافيا. وعلينا ألا نسعى من خلال التعليم إلى التقرير والدمج في نفس الوقت.
ومن ناحية أخرى، على مناهج التعليم أن تراعي الخصوصية الفردية التي يتحلى بها كل طالب على حدة. وأعني هنا بالخصوصية الفردية أن تغرس المدرسة الخصائص السلوكية الإنتاجية وتطوير الشخصية الإنتاجية. يجب على المدرسة أن تشجع وتظهر مواهب كل طالب وتحقق كل ميوله ونشاطاته. فعلى المدرسة، على أقل تقدير، أن تساعد الطلاب على التعرف على نقاط القوة لديهم وتجعلها قابلة للتحقيق والمتابعة.
وبصورة أخرى يجب على المدرسة أن تساعد الطلاب على تعلم العمل مع الآخرين في مشاريع هادفة ومهمة. فعملية التعاون هذه تولد أفكارا جديدة وتطور مهارات اجتماعية يحتاج إليها الطلاب في ممارسة الديموقراطية. فعلى المدرسة أن توفر فرصة مناسبة لمثل هذه النشاطات وتأخذ مكانها وتوفر أشكال التعلم التي تساعد على تحقيقها. وبصورة عامة، التعليم هو أكثر من شأن فردي. وعندما يتغلب الشعور المجتمعي والوطني ويظهر في الأفق بين الناس، هنا تصبح الفرصة لتشكيل مجتمع من خلال العمل التعاوني في المدرسة من الأهمية بمكان.
وبالإرتباط مع مفهوم التعاون يأتي هنا هدف خامس لطموحات المناهج والتعليم ألا وهو خلق وإيجاد الشروط التي يمكن من خلالها أن يساهم الطلاب في مجتمعهم الأكبر بصورة إيجابية. يجب أن يكون التعليم أكبر من الإنجاز الفردي الذي يهدف إلى خدمة الطموحات الشخصية. فالتعبير عن الشكر والامتنان للمجتمع والوطن ليس فقط في صوره الاجتماعية ولكن أيضا هو فضيلة خلقية. فتعلم الخدمة المجتمعية يذهب في هذا الاتجاه.
وبالإضافة إلى برامج تعلم الخدمة الرسمية، على المدرسة أن تضع الخطط والفرص لجميع الطلاب على أن يكون لهم ارتباط ما مع مراكز الثقافة والمؤسسات الاجتماعية والمعاهد الطبية ومصادر المجتمع الأخرى التي يمكن أن يساهموا فيها بشكل ما. ونحن محاطون ومأخوذون بدرجات وعلامات الاختبارات، غالبا ما نهمش أهمية تطوير المواطن اجتماعيا وهو القادر والراغب في المساهمة في الرفاه الاجتماعي الأشمل. ومثل هذا المفهوم هو مناسب لأن يكون هدفا تعليميا الآن أي في الحاضر والمستقبل أيضا.
من المهارات التي يحتاجها عالم الغد مهارة القدرة على التكيف. وهي القدرة على الخروج من المواقف والمعتقدات والقدرات الثابتة والقدرة على التغيير واكتساب قدرات ومهارات جديدة. وهذه قدرة على تعلم أشياء جديدة وإيجاد طرق ووسائل للتكيف مع المتغيرات وغير المتوقع برصانة وهدوء واتزان دون تسرع وتهور. على الأفراد والمجتمعات التعامل مع المفاجآت وغير المتوقع التي تظهر هنا وهناك في زمن العولمة وأن نكون قادرين على التصدي لها إما بالتكيف أو بإيجاد الحلول أو البدائل. فليس من المفيد في عالمنا اليوم أن يتمسك الشخص أو المجتمع بقوانين وقواعد ثابتة (مسبقة) التي يعتقد أنها تجد حلا لكل شيء في كل الظروف.
ولكي يتم إنجاز ما سبق من الأهداف، نحتاج إلى مفهوم مختلف جذريا عما هو عليه الحال التعليم والمناهج حاليا. إن العلامات والدرجات والاختبارات لم تعد المعيار الصالح للحكم على الثقافة والتعليم وارتباطه بالمجتمعات. يجب أن تتراجع الدرجات والاختبارات إلى المقعد الخلفي عند الحديث عن تعليم عصري ينفع الحاضر والمستقبل ويجب أن تفتح المجال أمام تعليم أفضل ونتائج أفضل. وطالما المدرسة والمناهج تتعامل مع درجات الاختبارات على أنها الدليل الأهم على إنجاز الطالب وإنجاز التعليم النوعي، سنظل نعاني من عدم التفاتنا وانتباهنا للنواحي المهمة في التعليم وسنظل ندور في حلقة مفرغة.
الكل منا مسؤول بدرجة ما عن قضية التعليم وأهدافه. ولكن السؤال هو كيف؟ نحتاج إلى وسيلة لتحمل المسؤولية التي تكون أوسع وأشمل من القياس والاختبار وأكثر حساسية لظلال ومعاني التعليم المفيد. ومثل هذه الوسييلة تحتاج إلى نظرة وتفكير مختلفين. فكيف السبيل إلى مثل هذه الوسيلة الناجعة في تعليم أبنائنا وبناتناا؟ وباختصار إن أكثر التعليم نفعا يوجد خارج أسوار المدرسة. إن الهدف الرئيس للمدرسة ليس هو مساعدة الطلاب على أن يجيدوا عملهم ولكن لمساعدتهم على أن يعملوا جيدا في الحياة التي سيمارسونها خارج المدرسة. إذن علينا أن نركز على ما يقوم به الطلاب عندما يختارون نشاطاتهم الخاصة بهم.
نحتاج أيضا إلى تنقيح البرامج التعليمية كي تخاطب وتواكب القضايا المهمة التي ذكرناها آنفا. والكثير مما نفعله ونقوم به في مدارسنا حاليا هو انعكاس للعناصر التقليدية التي تعمل بآلية الانتقاء. يجب علينا مساءلة هذه التقاليد ومحاسبتها وتمحيصها. فكيف إذن نبرر الطلب من الدارسين أن يركزوا اهتمامهم على أشياء بالذات؟ فهل يحتاج الطلاب مثلا مقررا في التفاضل والتكامل؟ وهل يحتاجون إلى عدد معين من حصص التربية الدينية؟ هل نحن مقتنعون أننا ندرس التاريخ كما حصل؟ هل نحن متيقنون من أننا نقدم المواضيع للطلاب التي تساهم في تطوير عقول الطلاب؟ هل نحن متيقنون من أن المواضيع التي يدرسونها ذات علاقة بالحياة خارج المدرسة؟ هل نقوم بتدريس هذه المواضيع لأن أولادنا راضون ومقتنعون بها؟ إننا نحتاج إلى طرح مثل هذه الأسئلة وأكثر ونحتاج إلى إجابات منطقية ومعقولة. وعندما نجد الإجابات المناسبة لمثل هذه الأسئلة يمكننا مراجعة وتنقيح برامجنا بيسر وانفتاح.
وعند المراجعة والتنقيح والتطوير للمناهج وأهدافها نحتاج إلى أن نتبنى نظرة أشمل للعقل وأعني بذلك نظرة شاملة للوسائل التي يتم بها التفكير. إن التفكير ليس محدودا بما تحمله الكلمات. ليس هناك حدودا للمعرفة ولا يمكن تعريفها أو تحديدها بلغتنا. إننا نعرف أكثر مما نقول بكثير. إن الإعتراف بأن التفكير يحدث أو يتم في أي من الحواس المعروفة لدى الإنسان- البصر والسمع وواللمس والذوق والشم- يفتح الباب واسعا أمام تطوير برامج تناسب كل وسائل التفكير الإنساني. وقد لا نستطيع مخاطبة كل عنصر من عناصر العقل ولكن يمكننا أن نتنبه إلى خياراتنا وأن نختار ما نستطيع تبريره.
إن الإعداد للمستقبل يتم بطريقة أفضل إذا ما خططنا التخطيط السليم لتعليم إنساني هادف الآن وليس غدا. إن تطوير العقل شكل من أشكال الإنجاز الثقافي الذي تلعب المدرسة وبرامجها دورا هاما فيه بالتعاون مع المجتمع. وإذا آمنا وقمنا بإدخال هذه المقترحات والأهداف سنكون قد حصلنا على جزء كبير من الإصلاح الحقيقي والأصيل لمناهجنا وبرامجنا ومدارسنا والذي يتطلب أيضا انتقالا من الطور النظري إلى المجال العملي لإتاحة الفرصة والمجال ليقوم أبناؤنا وبناتنا بتشكيل شخصياتهم المستقلة التي بدونها لن يكون هناك تقدم حقيقي أو تنمية مستدامة لا الآن ولا في الغد.