Imageومَنْ لم يمتْ بالسيفِ ماتَ بغيره، تعددتِ الأسبابُ والموتُ واحدٌ. كلام فارغ. فالموتُ ليس واحدًا. تتشابه ميلاداتُنا. ولا تتشابه ميتاتُنا. تسبقُ الميلادَ امرأةٌ تستلقي على ظهرها ليقفز منها طفلٌ إلى الحياة، ثم تتبعه طقوسٌ بعينها، تتشابه على تبايناتها من بلد إلى بلد. قد ينزعُ الطفلُ للطبيعةِ فيخرج في يسر دون كثير جلبة، وقد ينزع للمشاكسة فيخرج بعدما تُمزََق بطنُ أمّه على يد طبيب يهودي اسمه ليون ليشع فيخرج مغلّفا برحمٍ مهترئ جرّاء المشارط والجِفت والأظافر.

لكن الأكيد أن حفلا سوف يقام للضيف بعد أسبوع من مجيئه. نسميه في مصر "سُبوع" وهي الدارجة المحوّرة من كلمة "أسبوع". ومهما اختلفت تكاليفُ استقبال الوليد، حسب طبقته؛ إن كان ابنَ أمير أو ابن خفير، فإن الفرحَ بالضيف واحدٌ ومتشابه. ذاك أن الأطفال تتشابه لأنها جميعًا بلا ذاكرة أو تاريخ.

مجرد مشروعٍ آدميّ يُراهَن عليه بوصفه الأخيرَ زمانِه الآتي بما لم تستطعه الأوائلُ. لكن الحالَ مع الموت تختلفُ لأن الموتى قبل موتهم يصنعون تاريخًا وذاكرة. تختلف أولا حسب نوع الميتة. فإن كانت ربانية غير ما إذا كانت بفعل فاعل. وإن كانت بفعل فاعل سوف تختلف عما إذا كان الفاعل هو الحكومة أو القطاع العام أو القطاع الخاص.

سيختلف الأمر حسب تاريخك ودرجة وعي بلدك بوجودك. فلو كنتَ مثلا نجيب محفوظ، يعني حُزتَ نوبل، فسوف تترقبُ الصحفُ خطوات احتضارك لحظة بلحظة: عدد ضربات القلب وقوتها، قياس النبض ودرجة الحموضة والقلوية في الدم، عدد المرات التنفس في الدقيقة، واللحظات التي عاد إليك الوعي فيها فنطقت بكلمة أو حتى إيماءة صغيرة بدرت منك عفوا. وبعد موتك ستكون صورتك في صدر صحف العالم لأسبوع على الأقل، وفي صدر صحافة بلدك لأكثر من شهرين وربما عام. ذاك أن دولتك لن تنتبه لأهميتك إلا إذا منحك الغرب وسامًا، أما قبل ذلك فأنت محض كاتب مهما علت قيمتك.

وبالأخير أنت بالضرورة أحد أعداء النظام بوصفك مثقفًا، لأن النظم العربية هي جوبلز الذي يتحسس مسدسه كلما سمع كلمة "مثقف". لذلك لو كنتَ د. أحمد مستجير، يعني أحد أهم علماء العرب في الجينوم البشري والهندسة الوراثية، لكلنك لم تفز بنوبل ولا يحزنون، فسوف تكتب عنك جريدة أو جريدتان ثم تذهب إلى حال سبيلك حيث يذهبون. ولو كنت محمد عبد الوهاب، يعني نجمًا في فريق الأهلي ومنتخب مصر لكرة القدم، فسوف تبكيك كلُّ أم مصرية لأنك مت في عز شبابك أثناء التدريب، وسوف تنال أسرتك تعويضًا ماليًّا لا يخفف شيئا من مرارة المحنة، وسوف تعلق الصحف دمك في رقبة الجهاز الطبيّ كونه أغفل احتمال إصابتك بالقلب. أما لو  كنتَ مليكة مستظرف، يعني قاصة مغربية شابة موهوبة وفقيرة، مصابة من عقد أو يزيد بفشل كلويّ حاد أدى إلى تصفية جسدها وجيبها معًا، فسوف تعيشُ سنواتكَ الأخيرة على عُكّازين ويتحول بياضُ عينيك صفارا فاقعًا، ولن تستسلمَ للألم والاعتصار، ستظل تكتب حتى الرمق الأخير من قلمك وروحك. ستُطّيرُ من أجلك عشراتُ بيانات التضامن بمعرفة أصدقائك الكتّاب الفقراء مثلك حتى يسمحَ الملكُ بسفرك إلى فرنسا للعلاج على نفقته. وسوف يأكلك الألمُ  في كلِّ جلسة غسيل كُلى. ثم تموتُ في صمت دون أن تودّعَ أصدقاءك. لكن بعد موتك بأيام ستكتشف أن الملك قد أنعم عليك بقرار الرعاية السامية الذي دومًا يجيء متأخرًا.

وأما جنازك فسوف لن يمشي فيها إلا اثنا عشر شخصًا بالتمام والكمال ما بين قاصة وشاعر وصحافيّ من أصدقائك، بينما ستخلو تماما من مسئولي اتحاد كتّاب المغرب أو ممثلي وزارة الثقافة، ذاك أنك لم تحز نوبل أيضًا للأسف، ولا حتى الغرب قالوا عنك كلمة هنا أو هناك. وحدهم أصدقاؤك سوف يكتبون فيكَ قصصًا وقصائد ومقالات يهدونها إليك، لكنك لن تقرأ أيًّا منها، ذاك أن الموتى لا يقرأون. وأما لو كنت حاتم عبد العظيم أو أسد محمد، يعني ناقديْن شابيْن واعديْن أولهما مصريّ والثاني سوري، ويسبق كليهما حرف "د" لأنهما نالا درجة الدكتوراه في الآداب، فسوف تموتُ في الطريق شأن كل تَعِس. أليس الأدباءُ والكتّابُ تعساءَ ومتعَبين؟ حسب الأسطورة الإغريقية التي تقول إن الآلهةَ بعدما خلقوا البشر مسّوا بأطراف أناملهم بعضًا منهم فكانوا هم الفنانين. المتعَبون بالفن. المهم، لو كنت حاتم فسوف تخمدُ قلبَك سكتةٌ مفاجئة وأنت أمام عجلة القيادة فتنقلب سيارتك على طريق السويس لتترك طفلتيك قبل أن تقسم بينهما قطعة الشيكولاتة التي في جيبك. ولو كنت أسد محمد فسوف تدهسُك سيارةٌ رعناء في السعودية ويفرُّ القاتل الذي لا يعرف عن أطفالك في سوريا شيئا. وفي الحاليْن لن ترى اسمك إلا في عمود قصير في صفحة داخلية بصحيفة غير مقروءة (ذاك أنها صحيفة أدبية) لكن ستسبقُ اسمَك كلمة "وداعا". ولو كنتَ محظوظا سوف يضعون لك صورة وجدوها بصعوبة في أرشيف الجريدة.

كلُّ ما سبق من حالات موت فرديّ له طقسُه المميز، لكن الموتَ الجماعيّ مختلفٌ، ذاك أنه يحظى بانتباه إعلاميٍّ مكثف قد تنال معه حظوة أن تصوِّرَ جثمانَكَ عدساتُ الفضائيات ببث مباشر لحظة الوفاة أو حتى بعد انتشال الأشلاء. رعايةٌ فائقة سوف تنالها سيما إذا كانت ميتتُك بفعل فاعل. على أن الأمر يتوقف على طبيعة الفاعل. فلو كنت لبنانيًّا وأُهدر دمُك في الحرب الأخيرة، فسوف يدفع لك حزبُ الله تعويضًا مناسبًا حتى يجفَّ دمُك  أو يجفَّ دمعُ ذويك، أيهما أقرب. سيدفع حزبُ الله وتدفع إيران، أولا لأن الدمَ اللبنانيَّ غالٍ، وثانيا حتى تكفَّ الصحفُ عن الكلام حول المغامرة غير المحسوبة. أما الذين نجو من الموت فمصيرهم أسوأ منك بكثير ذاك أن عليهم، من جديد، تعمير ما قد عمّروه بالفعل طوال عقود مضت، ودون أية تعويضات. يعني أنت أكثر حظًا فاحمدْ اللهَ  على موتِك ولا تجزع. ولو كنت مصريًّا ستكون التباينات كبيرة جدًّا بحسب نوع ميتتك.

فلو كنت محظوظا فأنت أحد ركّاب العبّارة "السلام 98" ، يعني قطاع خاص، وتأخذ تعويضًا معتبرًا يصل لمائة وخمسين ألف جنيه مصري نقدًا وعدًّا. أما لو كنت سيء الحظ واخترتَ القطاعَ العام فسوف تكون أحد ركّاب قطار "قليوب" البائس ولن تنال إلا خمسة آلاف جنيه "عُمي" لن تكفي مصاريف الجناز، (غالبا لن تحتاج إلى جناز لأن جثمانك سوف يكون مِزَقًا وأشلاءً بما يوفر على أسرتك عناء طقوس الغُسْل والدفن). أما عن سبب قلة التعويض فلأن الحكومة المصرية فقيرة! (هكذا يقولون). يعني أفقر من الرأسماليّ ممدوح إسماعيل مالك العبّارة!! ولا تجادل كثيرا حول دخل السياحة وقناة السويس والبترول والقطن الخ لأنك ستجد من يفحمك بالكلام عن الانفجار السكانيّ والتضخم والديون ولن تخلص. فخذ الفلوس وقبّلْ يدك وش وظهر وأنتَ ساكت،  ولا تنسَ أنك ستنال شرف أن يُكتب اسمك في الجريدة الرسمية ضمن قائمة المفقودين أو الموتى كما أن الرئيس بنفسه سوف ينعيك إضافة إلى عزاء بعض ملوك ورؤساء العالم لشخص الرئيس بوصفه رب الأسرة المصرية الثكلى.

ولو كنت أحد حضور مسرح بني سويف الذي احترق بمن فيه بسبب خراب وإهمال نُظم الصيانة والإدارة في مصر، فسوف تجد اسمك وصورتك في كتاب ضخم أعدّه بعض مثقفي مصر بعد عام من احتراقك. وفي كل حالات الموت العمديّ تلك لن تعدم هيئةُ القضاء الموقرة فاعلا غلبانا يلبس القضية برمتها: عامل التحويلة في خط القطار، شركة "بنما" للملاحة، إحنا فين وهي فين؟، بواب المسرح الذي أغلق الباب على الناس ومشي، أو حتى يكون الجاني شمعة غبية سقطت من طولها نتيجة فقر الدم. لذلك فبيتُ القصيد ليس كيف تعيش، عشْ كما شئت وافعل ما تشاء، لكن اختر ميتتك صح، الشطارة أن هي تموت وليس كيف تعيش. عليك باختيار الميتة التي تتفق ومتطلبات أسرتك من بعدك.

كم كان عبقريا توفيق الحكيم حين كتب مسرحيته: "عرف كيف يموت"، عن الرجل الذي ظل طيلة عمره يحلم بميتة أنيقة رفيعة كي تكون تتويجًا راقيًا لرحلة حياته ويظل الناس يتناقلونها فيما بينهم سنوات وسنوات. قلّبَ الأمرَ على وجوهه كلّها، وظل يفكرُ ويفكر: كيف يموت؟ وفي غمرة انشغاله بالتفكير، سقط في بالوعة مجاري صرف صحيّ. ومات.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية