جمعتني جلسة ودية مع صديقة زارت الكويت للمرة الأولى ، فهي استرالية الجنسية والمنشأ، وكشميرية الأصل وكثيرة التجول بمختلف بلدان العالم لطبيعة عمل زوجها ، وتربطني علاقة وثيقة بعائلتها التي تعيش في الكويت، استمتعت كثيرا وأنا أستمع لمغامراتها خلال جولاتها المتنوعة ، فأخبرتني عن الشعوب المختلفة وثقافاتها وأماكنها السياحية المشوقة ، وبطبيعة حالنا نحن الجنس الناعم مهما تحدثنا عن المعالم التاريخية والملامح الاجتماعية والمناقب السياسية لابد أن نلقي الضوء الأكبر على الموضة والأزياء والأسواق العالمية ثم الحديث عن المطبخ والطبخات وآخر اختراعاتنا ، وما كان يزيد من حلاوة الحديث هي حركات وقفشات ابنها المشاغب ( مجاهد ) الذي كان يجاهد ليظهر بأنه غير مشاغب لكنه فشل. سألتها وليتني لم أسألها : ما قلتي لي اشرايج بالكويت ؟ وين رحتي وشنو شفتي ؟
فوجدت ابتسامة ذات معان خفية مرسومة على شفتيها ونظرة شفقة لم أفهمها ، فتفلسفت وقلت: أدري يبا ما عندنا أماكن سياحية وايد بسبب جو المنطقة الحار فالطبيعة هنا لا تساعد لذلك ، ولم أكمل حديثي لأنها قاطعتني قائلة : لالالا لم أقصد ذلك بل بالعكس الكويت وايد حلوة وأنا قصدتها لأزور منطقة الخليج التي هي منبع الرسالة المحمدية ، وأهلها هم خير سفراء للإسلام ولكن ...
حينها تأكدت أن هذه ( ولكن ) تحمل أوجاعا كثيرة بين طياتها ، وتيقنت أنني لن سأتحدث كثيرا بل سأجبر أذاني لسماع مالا أوده وأتمناه ، فجلست باسترخاء ومددت يدي إلى الكوب الواضع أمامي لأرتشف شاي بالحليب الذي كنت أنتظره وينتظرني بفارغ الصبر، وبدأت هي تحكي لي ما مرت به وما رأته خلال زيارتها القصيرة فقالت :
مرضت والدتي فأخذتها إلى إحدى المستشفيات الحكومية لديكم ، ما إن دخلنا هناك أصابني الذهول ، هل فعلا هذا المستشفى في دولة غنية يسبح في جوفها الذهب الأسود ؟ الشكل والمبنى والخدمات الطبية لا توحي بذلك إطلاقا ، فالكاتب في ضياع ، والدكتور لا يدري ماذا يحدث، والممرضة بعالم آخر ، والفراش همه جمع أكبر قدر من الخردات من المرضى وذويهم ، أين الاهتمام بالمريض المسكين ؟؟ فمستشفيات الصنعاء باليمن كانت أكثر تطورا وأفضل خدمة من هنا ، كانت والدتي تعاني من بعض الآلام ولكن عدم الاكتراث واللامبالاة التي لاقيتها جعلتني مريضة أكثر من والدتي ، غادرنا المكان بأسرع وقت متجهين إلى أقرب مستشفى خاص وأنا أشعر بالأسى على حال المرضى الراقدين على أسرتها منذ فترة طويلة .
قلت بقلبي : عيل ما شفتي شي ... الله يستر من اليايات
ورغبة في التسوق تجولت ببعض المجمعات الراقية مثل الأفينوز ومارينا مول وسوق شرق، أعجبني كثيرا الزي الشعبي عندكم ( الغترة والعقال و الدشداشة للرجال ، والعباءة والملفع للسيدات ) ، وبصراحة ودون أدنى مبالغة كادت تصيبني الغيبوبة من رؤية معظم الشباب والفتيات رواد هذه المجمعات أنه حقا عجب العجاب ، وجوه ملطخة بمكياج صارخ ، صبغات شعر كأنها علبة ألوان مائية منتهية الصلاحية ، وقصات شعر الشباب كأنها جلود البرمائيات والزواحف ، أزياء ظننت أنها مستعارة من الأدغال ، تاتو ووشم ورسومات مبهمة على أجساد المراهقين ، لم أشاهد مثلها في سدني ولا كاليفورنيا ولا تورنتو ، حتى المحجبات... البعض منهن
يرتدين ثيابا ضيقة لأبعد الحدود تظهر مفاتن الجسد بدقة ، وأرجوك أخبريني ما سر الرؤوس المنتفخة كأنها متورمة من الخلف؟ فالمحجبة ترفع رأسها وكأنها تخبأ رأسا آخر تحت حجابها ؟ أهذه موضة أم جنون ؟
ناهيك عن تحرشات الشباب والرجال أيضا والتصفيق والتصفير وحركات بهلوانية ، بصراحة حزنت كثيرا لهذا الوضع المؤلم ، فهؤلاء الشباب هم الثروة الأساسية كيف سيكونون قادة الغد وآباء المستقبل .
قلت بقلبي :آآآآآه يا قلبي... ما دريتي ربعنا متخصصين بهالسوالف ، عندهم دكتوراه بالخز والقز.
رن هاتفها النقال وتركتني قليلا ... فناديت مجاهد الصغير وبدأت ألاطفه فسألته :
هل تعرف معنى اسمك ؟ فرد بثقة : Yes , of course معنى مجاهد هو الذي يجاهد للحق ويقهر العدو ليهزمه .. قلت له : ما شاء الله عليك ، لكني سأفتقدك ، لماذا لا تسكن معنا هنا ؟
فأجابني بلهجة طفولية وعقلية رجولية : also I'll miss u ، ولكن علي الذهاب لأعود لدراستي فأنا اشتقت للمدرسة كثيرا ، وهناك يعلمونني لغات كثيرة ، وكل يوم استكشف أشياء جديدة ، ونحن نخرج في رحلات علمية رائعة نتعلم فيها مهارات متنوعة ووو...
تركت الطفل يتحدث وسرحت في كلامه وكم تمنيت لو كان هذا هم أبنائنا ذوي ستة عشر أعوام ما يشغل اليوم (مجاهد ) الذي لم يكتمل السادسة من عمره .