في أقل من عشرة ساعات منذ سماعي خبر وفاة "هدى عابدين" ابنة الاخت "هادية"، وجدت نفسي في الطائرة متوجهة نحو مدينة "آخن" الألمانية من جديد، لم يكن خبرا عاديا، ولم يكن يكفي بالنسبة إليّ هاتف ولارسالة الكترونية، لم تكن تكفي برقية ولابريد بعد ماعشته قبل شهرين من هذا التاريخ مع "هادية العطار" من أخوة راقية رائقة صافية وكرم عظيم يتجاوز الكرم المادي الى مكارم الأرواح، لم يكن يكفي أي شيء ليقوم بواجب التعزية في مصابها الجلل، بل مصاب كل شباب أوربة المسلم من الجيل الثاني
"هادية العطار" الأخت التي تعرفت إليها شخصيا الصيف الماضي بعد معرفة عن بعد امتدت الى عشرين عاما عبر والدها..والدي الثاني الاستاذ عصام ، وخلال هواتف تصلك فيها أصوات الناس ، فتتعرف إليهم بأذنك التي تُطور مع الايام قدرة مذهلة على تمييز الشخصيات والنفسيات والنوايا ، الناس يدخلون إلينا في غربتنا عبر أسلاك الهواتف قبل أن نراهم ، وقليلة جدا بل نادرة تلك المرات التي خالف فيها حكم العين قرار الأذن في تقييم الناس الوالجين غربتنا من طريق الهاتف.
في مطار مدريد لدى مغادرتنا لقينا تفتيشا عنيفا وأذى نفسيا بالغا ، واستدعاء لقوى الأمن مع الرشاشات بسبب رفضي خلع جلبابي أمام الناس جميعا وجرأة ابنتي في منع القوم من إرغامي على ذلك وأنا في هذه السن وهذا الموقف ، يبدو أن القوانين الجديدة لمكافحة الارهاب أصبحت تقضي بخلع الجميع معاطفهم ، ولم يفهم القوم أن هذا الجلباب ليس معطفا ولكنه شيء مرتبط بإحساسي بديني وبنفسي ، شيء ألتزمه منذ ثلاثين عاما وكنت على وشك أن أعود الى مدريد وألغي رحلتي هذه إلى آخن ، قلت للشرطية : خذيني إلى غرفة خاصة فأخلع الجلباب أما أمام الناس فلن أفعل ، ليس الموضوع أننا لانريد التعاون في مجال مكافحة الارهاب ، القضية أن مكافحة الارهاب لايجب أن تصبح ذريعة لإهانة المسلمين !.
عندما غادرت ألمانيا قبل شهرين كنت قد اتخذت قرارا بعدم العودة إليها ، لأسباب كثيرة منها على سبيل المثال ماعانيته وأولادي في مطار مدريد لدى المغادرة ثم في مطار دوسولدورف لدى الوصول من مبالغة في التفتيش والازعاج ومظنة الارهاب التي أصبحت ملتصقة بكل صاحبة حجاب أو جلباب ، وكل صاحب سحنة تومي بأنه ينتمي الى عوالم الجنوب المستثناة من توجهات الرفق بالانسان والحيوان والبيئة. ومنها ماكان في اليوم الأخير قبل مغادرتنا مدينة آخن من أذى تلقيناه من أكثر من واحد من أهلها ونحن في جولة أخيرة حاولنا فيها توديع المدينة الوادعة الصغيرة ، التي اكتشفنا أنها لاتختلف في شيء من مواهبها العنصرية عن مدينة كبيرة متوحشة كمدريد ..مدينتنا .. أهي مدينتنا حقا؟ أم أننا نقيم فيها منذ نصف قرن ولما تقتنع هي بنا كبشر يقيمون فيها ؟ ولم تقبلنا بعد ولم تستطيع أن تزدرد ملابسات العولمة الجديدة بكل ماتقتضيه من ثورة اتصالات وسهولة مواصلات حملت سِلما الشرق الى الغرب الذي طالما سكن الشرق واحتله ودمره حربا وغزوا واعتداءاً.
لم نكد ندخل مطار دوسولدورف حتى فاجأنا أحد رجال الأمن الذي يرتدي زيا مدنيا بتوقيفنا ، وطلب إلينا من جديد أوراقنا وجوازات سفرنا ، ولم يعجبه أننا كنا نحمل بطاقات إثبات الهوية الاسبانية فراح يدقق بشكل
غريب فيها ، ويقلبها ، ويسألنا بالاسبانية بعض الأسئلة التي أراد أن يتثبت من خلالها من بعض الأمور ، قبل أن يودعنا بأدب متكلف.
***
عندما رأيت "هادية" تقف هناك في استقبال المعزيات بعباءتها السوداء تلك أصابتني هزة عنيفة ، رأيت شموخا عجيبا لم أكن أنتظره ، رأيت صبرا وثباتا وتماسكا ، وحزنا رناناً بصمته ، وألماً ينتشر في الجوارح يتحول بفعل الصبر إلى نور وسكينة ، لم أستطع أن أقول شيئا ، لايمكن أن أقول شيئا ، الكلمات عاجزة تماما عن القيام بواجب التعزية والتثبيت والنصيحة ، ماذا يمكنك أن تقول لأم فقدت ابنتها البكر رفيقة حياتها وعمرها ومعاناتها وألمها وسرورها وآمالها، البنت البكر هي الصديقة والأخت والرفيقة والأم ، من منا يمكنه أن ينكر أن ابنته البكر لم تصبح على أعتاب العشرين أماً له ؟! لعلها أحاسيس الأمهات في الغربة ؟! لعلها مشاعر امرأة رأت في وجه هادية في تلك العشية حكايات طويلة ، حكايات مريرة لكنها حكايات لذيذة على مرارتها لأنها تلك التي نسجناها بأيام حياتنا وطرزناها بمواقفنا التي اخترناها وحبكنا أطرافها بإرادتنا الراسخة في اختيار الطريق الذي وفقنا الله بالسير فيه.
انكسرت كل الأحلام في لحظة من الزمان كما تنكسر مرايا في يد عروس يعدها أهلها للقاء الحبيب، انفتحت تحت قدميّ تلك الأم هوة فاغرةً فاها وكانت تظنها واحة أمل عملت ربع قرن على زراعتها والعناية بها وهي تنتظر الحصاد ، ماذا يمكن أن يعزيها ؟ وأي شيء يمكنه أن يخفف من مصابها؟ فمابالك إن كانت هناك واقفة كالطود العظيم تقوم هي بتعزية الناس والتخفيف عنهم ، لم أرّ مثل هذا في حياتي إلا في مواقف قليلة نادرة ، نعم لقد شهدت ورأيت بعض الأمهات الشامخات من مسلمات وغير مسلمات كن أمثلة عظيمة مذهلة في الصبر والثبات في مواقف مشابهة ، استطاع الايمان أن يقلب فيها المعادلات ، وأن يعرفنا على هؤلاء القوم الذين لايشبهون الناس كثيرا ، من الناس من تنزل به المصيبة فيملأ الدنيا ضجيجا وتهريجا ويحب أن يرغم الناس جميعا على ركوب حافلة مصيبته فلعل ذلك يخفف من ألمه ، ومن الناس من يؤذي الناس بمصائبه فيحملهم مالاطاقة لهم بحمله ، ومن الناس من يحب أن ينفرد بمصيبته حتى تنجلي غمامة حزنه ويستطيع بألمه أن يستأنف الحياة التي تأبى إلا أن تُستأنف وأن تمضي لاتلوي على شيء ، ومن الناس من يعلمك بمصيبته دروسا بليغة تعجز كل الكتب والمواعظ عن تعليمها.
لم أذهب الى آخن لتعزية هادية أو آل العطار وحدهم لقد ذهبت لأعزي جالية كاملة ، ذهلت وأنا أسمع وأرى حجم المصائب في فقد الأعزاء في آخن والتي بلغت حداً ملفتا للنظر في زمن قياسي ، فهذه زوجة فقدت الزوج الحبيب الغالي منذ أشهر فقط ، وتلك أم فقدت ابنها وهو في مقتبل العشرينات في حادث سير ، وسيدتين فقدتا أختيهما الشقيقتين في عام واحد ، لم يكن ارتفاع حجم المصائب في فقد الأحبة في آخن هو الملفت للنظر فحسب، وإنما كان حجم صبر أهل آخن من المسلمين على فقد أحبابهم، هزتني بعنف تلك الأم المذهلة التي لقى ابنها الشاب حتفه منذ أشهر وهي تعزي هادية بقولها: "حياتنا في الغربة تقتضي أن نقدم أبناءنا للحياة كما تقدمهم الأقدار للموت، فكما أنه من واجبنا أن نعمل للحياة ونعمر وندفع أبناءنا للدرس والتحصيل وبلوغ أعظم المراتب جهادا واحتسابا فإن من الجهاد الصبر على زرع أبنائنا في التربة ، ذلك الزرع الذي سينتش بذور الصبر والاحتساب والرضى بقضاء الله" .
عندما جاء الاستاذ عصام العطار آخر اليوم لزيارة الأخوات وشكرهن على مااجتمعن عليه من تعزية وسلوى، كان الموقف مؤلما حقا، ليس من السهل على جَدٍ أن يتلقى التعزية في حفيدته ، ليس من السهل على هذا الجدّ أن يتلقى التعزية في حفيدته هذه !.
الموقف أكبر من أن تُحتمل ملابساته لدى أية أسرة عادية فكيف بأسرة عصام العطار بالذات ؟ هذه الأسرة التي احتملت وتحتمل من المحن الكبيرة والصغيرة مايعجز أحيانا الكثيرين عن الاستمرار معها في درب الحياة دون أن تترك الحياة بصماتها عليهم . لكن وكما يحصل يوميا في فلسطين وماتعانية الأسر والآباء والامهات والجدود والجدات هناك في الارض المقدسة فإن بعض الأسر هنا كذلك في اوربة تجد نفسها مضطرة إلى الارتفاع فوق مستوى الألم ، والى تقديم الدروس وأن تضرب من نفسها المثل بعد المثل لأن الحياة يجب أن تمضي قُدما بكثير من العزم وكثير من الصبر وكثير من الرضى بقضاء الله ، إنها أسرٌ تجد أن من الواجب عليها أن تحول أحزانها إلى آلام تعلم الآخرين الكثير من دروس الحياة .هذه الحياة التي كلما ظن المرء أنه رأى فيها كل شيء يكتشف مع كرّ أيامها أنه لم يرّ شيئا بعد ، وكلما أصابته محنة ظنّ أنها محنته في هذه الحياة فإذا بالحياة تخونه من حيث لايحتسب!.
***
في ضحى اليوم التالي اجتمع الناس في مسجد بلال في آخن لصلاة الجنازة ، نساء ورجالا ، وخرجوا جميعاً بسياراتهم لتشييع ابنة الأخت هادية ، هذا تقليد منتشر في حياتنا في غربتنا ، يلومنا الناس في بلادنا على خروجنا نحن النساء في بلاد الغربة إلى المقابر لتوديع الأحبة ، لأنهم لايدركون كيف يكون طعم مصيبة الموت في الغربة ؟! ولايعرفون حجم ذلك الألم الذي يبتر الروح ويجعلها تتشظى ألف قطعة وفي كل اتجاه. ربما نجد مندوحتنا الشرعية في ذلك الالتزام الحرفي بالأوامر النبوية في هذا المجال .
لامواساة ممكنة لأرملة وهي تترك زوجها في المقبرة في غربة وكربة إلا بمرافقته إلى حيث يبدأ رحلة جديدة في مرحلة جديدة من الحياة التي منحه الله إياها ، ولا سلوى لثكلى في وداع ابنتها التي توفيت في الغربة إلا بمرافقتها الى المقبرة ، شهدت هذا قبل عشرة أعوام في مدريد يوم اختطف الموت إحدى بناتنا العزيزات في مدريد "صفاء" بأعوامها الثلاثة عشر ، شهدت لهفة الأم التي تحترق وقد أصبح فؤادها فارغا من كل شيء إلا اللوعة والألم الذي يتلوى منه ولايستطيع أن يعبر عما فيه .ألم يكبر مع الايام ، على العكس من كل آلام وجراح الحياة ، تتكفل الحياة نفسها بجعلها ذكريات ، إلا هذا الألم .. لايعادله إلا فقد الطفل أمه .. ألم يبقى ندبة تتسع مع الأيام نازفة جراحها حتى لقاء الأحبة.
لم يكن في آخن مما يخص الجالية المسلمة في ذلك اليوم إلا الصمت ، أكثر من مائتي شخص من نساء ورجال وأولاد كانوا في تلك الجنازة لاتسمع لهم حسا ولاصوتا ولاصخبا ، لم يكن يسمع في الطريق من باب تلك المقبرة حتى ذلك القبر سوى قرع النعال ، لم أر ولم اسمع مخالفة شرعية واحدة ولابدعة واحدة ، كان همس البكاء المكتوم وحده يتردد بين الحين والحين عندما وقف الجمع منتظرا انتهاء الأسرة من وداع ابنتهم في قاعة خاصة يكون فيها مايكون من خصوصية يجب على الناس أن يحترموها في مثل هذه المواقف.
عندما فتح باب المقبرة وهي حديقة جميلة جعلها الألمان في آخن المكان الذي يجتمع فيه الموت والحياة في أناقة وسكون عجيبين، أعجب مافيهما أنني لم أر هنالك قبرا واحدا مرفوعا عن الارض لأكثر من شبر واحد، كل القبور بمجموعاتها الثلاث، الاسلامية واليهودية والنصرانية، لاتختلف في شيء عن بعضها البعض إلا بشكل شواهدها التي أضحت هناك في مدينة آخن _ كما في كل بقاع أوربة _مكتوبة بكل لغات أهل الارض كما يقول "تميم البرغوثي " في قصيدته عن القدس، فيها التركية والألبانية والألمانية والعبرية والباكستانية والفرنسية والعربية والايرانية والروسية والأفغانية، أصبحت المقابر شاهدة على حركة اندياح إنساني جديدة نحو الشمال في عالم اليوم .من قال أن الحياة تنتهي في المقابر ؟! ومن هذا الذي اخترع عبارة "توديع الناس الى مثواهم الأخير" ؟!، لم تكن المقابر قط آخر عهد الناس من عوالم الشهادة على الأقل لمن كان يؤمن منهم بعوالم الغيب! ، لاتنقطع حياة الحبيب مادام ينبض حياة في قلوب من أحبوه ، ولايولي أبداً من ترك اثرا في هذه الحياة ، علمٌ ينتفع به أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له ..ومثل ذلك أبوين صالحين وإخوة صالحون وأحبة صالحون لاينسونه من دعائهم واستغفارهم، يمدونه بالحياة وقد فارق ثاني محطاتها.
***
مضى الجمع بصمته واحترامه لكل كبيرة وصغيرة في تعاليمنا الدينية دون زيادة ولانقصان نحو ذلك القبر ، لأول مرة في حياتي أرى بمثل هذا القرب قبرا مفتوحا ، لم أكن أعلم أن المرء منا يحتاج الى كل هذه الكمية من التراب يخرجه الناس من التربة كي يستطيعون زراعته فيها ، "هادية " تقف على رأس القبر ، بكل الهدوء والشموخ الذي يمكن لامرىء أن يظنه ، أولادها الأربعة مكسوري الجناح كانوا على الرغم من الكسر هُم الأب وهُم الأم لأمهم وأبيهم، في تلك المقبرة لم يهزني منظر القبر كما كنت أنتظر، فلقد كان مشهد تلك الأم بتلك الوقفة أعظم من القبر الفاتح فاه والذي طالما تحدث عنه الشعراء والوعاظ والفقهاء والخطباء ، ، لم تقتل الغربة أحاسيسي ومشاعري !! لم يكن هو ذاك !..ولكنها الأهوال التي رأيناها في هذه الغربة ، والبلاآت التي عايناها وعانيناها والمصائب التي مرت بنا شخصيا أو بإخوة لنا شهدناها وعشناها معهم حتى ماعادت المصائب تهزنا على عظمها وجبروتها ، شهدنا مصاب الناس في الأبدان والصحة ، وشهدنا الابتلاء في الأهل والمال والأبناء ، وعشنا قصصا مروعة عن البلوى المزلزلة في الأعراض ، وشهدنا تحول النعم الى نقم ، وتغير الاخوة والاخوات والصديق الحميم الى عدو لئيم ، ورأينا كيف تتقلب الدنيا بالناس فتُملأ الدور التي مُلئت حبورا ألما وعويلا ، أو التي عمّها الحزن واليأس بالسرور والأفراح ، وكيف يُبتلى المرء في أخلاقه أو في نيته أو في قناعاته أو مواقفه ، وكيف يقع أعظم وأمرّ أنواع البلاء على الاطلاق وهو ابتلاء المرء في دينه وعقيدته ، مرت كل تلك الحكايات في ذهني وأنا أرى ذلك القبر ، وتلك الأم العظيمة واقفة بشموخها على حرفه رافعة يديها بالدعاء لابنتها الفقيدة ، في انكسار وألم لايقدحا من ذلك الصبر الشامخ ، كانت هادية العطار تدعو والناس تؤمن على دعائها ، تلك الأم كانت هي الحدث ، صبرها في ذلك الموقف وموقفها في ذلك المقام كان أكبر من الكلمات بل كان يعجز الكلمات ، ماذا يمكن أن تقول لأم تدعو الله أمام القبر الذي سيضم ابنتها وفي هدوء وثبات أن يتقبل فلذة كبدها بقبول حسن وأن ينزلها منزلا مباركا كريما وأن يفسح لها في قبرها وأن يجعله روضة من رياض الجنة ؟ .
"أيمن العطار" ببسمته الوادعة الدائبة وتواضعه الجمّ ونشاطه الذي لاينقطع ، أيمن العطار الجندي شبه المجهول في هذه الأسرة والذي يشكل العمود الفقري الذي يستند إليه الجميع ، بلال وأنس وعصام وندى وهالة ولينة الصغيرة وحتى عصام الصغير كانوا أمثلة استثنائية في الصبر والاحتساب الذي يمتزج مع الألم العظيم دون أن ينتقص شيئا من شروطنا الإنسانية في الإحساس بالأشياء من حولنا .. وليس آل العطار فحسب بل كل واحد من أفراد هذه الأسرة الكبيرة التي تشكل لحمة وسدة الجالية في آخن كان يضرب من نفسه المثل الرفيع في الصبر والاحتساب والأخوة والمحبة والتعاضد مما تعجز معه الشفاه عن أن تنبس بكلمة ، إن الصمت أبلغ من الكلام أحيانا ، وربما يكون الكلام زائدا وفائضا عن الحاجة والللياقة أحيانا أخرى .
***
في تلك المقبرة وأثناء الفراغ من مراسم دفن تلك الصبية العزيزة التي استودعناها عند ربها أمانة ، استوقفني مشهد غريب بين المشاهد ، رجلين مسنين ، ابيضّ الشعر في رأسيهما اللذين تغطيهما تلك الطاقية الشيشانية المعروفة ، جلسا ملتصقة أكتافهما جنبا الى جنب بعيدا عن الناس على أحد المقاعد المنتشرة في "حديقة الذين سبقونا إلى الدار الآخرة " تلك ، وقفت الى جانبهما أشاركهما صمتهما ، ليس لدي ما أقول ، فلقد قالت هادية العطار بفعلها كل ماكان يجب أن نقوله جميعا ، كنت في ذلك الموقف الجليل أرى كيف يمكن للكبار الكبار أن يستمروا في رحلة الأخوة في الله نصف قرن من الزمن دون أن تغير الأيام القلوب ولا النفوس ، كنت أشهد درسا نادرا من دروس الوفاء والمحبة الصادقة في الله ، والصداقة العميقة التي يحافظ المرء عليها وهو يمضي في درب الحياة ، درس من دروس العلاقات الانسانية الراقية الرفيعة التي حق لنا أن نبكيها في حرقة وأن نشق عليها الجيوب ونلطم الخدود اليوم ، ونحن نعيش في غربتنا تنكر الإخوة وتغير الأصدقاء وخيانة الأصحاب وامتهانهم لكل معاني المودة والرحمة والوفاء ، وتمكن الحسد والغيرة والحقد في القلوب الى درجة تدمير كل الأشياء الجميلة الصغيرة والكبيرة في حياتنا ، كنت أقف في حضرة هذين الرجلين الكبيرين في محراب شيء ضيعه الكثيرون منا ولم يحرصوا عليه حرصهم على حياتهم ولم يعرفوا له طعما ولامذاقا وهو الأخوة في الله ، كنت أمام عصام العطار ومحمد الهواري ، يستند أحدهما الى الآخر بصمت وود وإخاء لاتكاد تعرف فيه من منهما بالضبط هو الذي فقد حفيدته في هذا اليوم !، هنالك رأيت كيف يشد الله عضد المرء بأخيه ، وكيف يشد المرء حبل صلته بالله عن طريق الحب فيه .
سألت عن قبر الشهيدة بنان الطنطاوي، ووقفت وأولادي أمامه أؤدي واجب الاحترام العميق للأخت التي أكرمها الله بالشهادة على زماننا بدمائها الزكية، زماننا الأعور الذي تفرقت فيه النخب في بلاد الله الواسعة لأمر يعرفه الله وقد أصبح اليوم باديا لكل من له قلب أو ألقى السمع، هذه هي بنان الطنطاوي الشهيدة التي قتلت ظلما وعدوانا، هذه هي الشهيدة الحية في نفوسنا جميعا، -وكما كتبت من قبل- لقد أصبح دمها اليوم المبرر الوحيد الذي نستطيع أن نقدمه لأبنائنا وهم يسألوننا عن بلادنا وعن أسباب غربتهم، إنه هذا القبر البسيط الذي ضم بالأمس جثمان هذه الشهيدة والذي يضم قبر آخر إلى جانبه اليوم هذه الحفيدة ، لتصبح هذه المقبرة روضة للصبر والمصابرة والمجاهدة والمرابطة في حياة هادية العطار التي اختار الله الى جواره واحدة من أبنائها لكنه ترك لها أربعة هم بأمس الحاجة إليها لأنها الأم ، ولأن دور الأم أعظم من أن يتقاعس عن رفد الأبناء بكل الحب والعناية والرعاية والدعم على الرغم من الجرح والجراح والألم العظيم العظيم.
*****
كان ذلك يوما عجيبا وغريبا ، آخن التي كنا قد ودعناها قبل شهر ونصف فقط ، تبدو كما هي جميلة وادعة هانئة قريبا من ضفاف الراين الكبير الجميل ، تلفها الأشجار والنباتات من كل حدب وصوب ، هذه هي آخن التي كنت قد زرتها اول مرة قبل ثلاثة وعشرين عاما ، كل شيء تغير فيها اليوم ، لم يكن يسكنها بشر في ذلك العهد البعيد ، كان الناس فيها من الألمان أشبه بكائنات فضائية متعالية لاتأبه لشيء ، ولاتكاد عيونهم التي أعماها التكبر والكبر تحط نظراتها على أحد من الغرباء ، آخن اليوم تغيرت ..تغيرت كثيرا ، صار كثير ممن رايت من سكانها من الألمان من الشباب ، وأطفال كثيرون من الالمان يتقافزون هنا وهناك في ساحاتها ، وأصبح الناس ينظرون إلينا بمختلف أنواع النظرات ، دبت الحياة في أوصال المدينة على مايبدو بعد ربع قرن من التعايش مع المهاجرين ، هؤلاء الوافدون الى أوربة بآلام شعوبهم وآمال أممهم ، هؤلاء المنفيون خارج حدود الأوطان التي تحاول استئصال الرجال وتتكيء على أشباههم ، هؤلاء الذين حملتهم يد العناية الإلهية الى هذه البلاد ليقدموا لها ماتعجز عن الاعتراف به ، ولاتريد أن تقره أبدا ، الآتون من وراء البحار ليس لأنهم يريدون أن يدمروا ويقتلوا ويرهبوا الناس الأبرياء في ديارهم ، ولكن ليعلموا أهلها الحياة ، وليقدموا لهم دروسا واقعية ملموسة عن أشكال أخرى من اشكال السلوك الانساني قد تكون أرقى وأفضل وأكثر إنسانية من إنسانية أوربة المشوهة العاجزة عن تقديم الحب والرعاية لغير قرود حدائق الحيوانات .
في مطار دوسولدورف ونحن عائدون إلى مدريد، مررت بسلام، لم يفتشوني، بل قال لي الحارس : ممتاز!! ممتاز أنني اجتزت حاجز الاشعة دون أن يطلق صفارة الإنذار، ابنتي ..اضطرت إلى خلع كل ماتحمله من ملابس خارجية، وأخيرا ...ظهر أن المشكلة تكمن في حذائها! خلعت حذاءها وذهبوا به للتدقيق قبل أن يعيدوه إلى البنت حتى تستطيع السفر منتعلة!
على الرغم من كل العوائق والصعوبات التي توضع باسم مكافحة الارهاب على حركة الناس والمسلمين منهم بشكل خاص، فإن الحب في الله والأخوة الصادقة لاتقف عند حدود ولاتحول دونها قيود، إن بإمكانها اختراق الحواجز واختصار المسافات، لأقوام من بلاد شتى وقبائل متفرقة يجمعهم الألم كما يجمعهم الفرح ، في الغربة كما في الوطن، إنها ملابسات الحياة والغربة.
***
اللهم آجر آل العطار في مصابهم الجلل، مصاب الجاليات المسلمة في كل أوربة بفقدان هذه الشابة المجاهدة التي كانت تقف على ثغر عظيم من ثغور الاسلام ، نسأل الله أن يكتب لها فيه أجر الرباط والجهاد إلى يوم القيامة.
واخلف عليهم خيرا من مصابهم حلاوة للايمان والصبر يجدونها في نفوسهم وقلوبهم ونورا يحف حياتهم يضيء ويهدي ويعلم.