للاستماع إلى هذه المقالة بصوت الكاتبة:
{play}/audio/Nashiri_Hayat_abraaj.mp3{/play}
{enclose Nashiri_Hayat_abraaj.mp3}
• "ناسا"، وناس:
في حين تنفق وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" مئات الآلاف من الساعات، ومليارات الدولارات للتنقيب في فضاء الكون الفسيح والتنقل بين المسارات والمدارات الفلكية، أبصرت "ناسًا" من بني قومي يدورون في مسارات الجهل؛ فيتبركون بالكوكب الفلاني، ويتدارسون أثر الفلك الفلاني على شخصيات وطبائع البشر. وإذا كنتم تعتقدون أن كلامي مبالغة وتدبيج، اسألوا أصحاب المكتبات عن أكثر الكتب المتهافت عليها في مطلع العام الجديد، وسيشي لكم جوابهم الموحد بالكثير.
أخذت إحدى الزميلات ذات مرة توسوس في أذني عن صفات برجي وقد حرصتْ على التأكيد لى أن لا علاقة للأبراج بالمستقبل، فمعرفة هذا بيد الله وحده، بل فائدتها تمكن في الكشف عن شخصيات وطباع مواليد البرج. بيد أني استعصمت واستمسكت، وأحلتها إلى مقالة سابقة لي في هذا الموضوع.
لكن مع تواتر القصف، كان لا بد من لين يصيب النفس. اليوم، صرت أعلم أني ظلمت الكثيرين حين لُمتهم على إيمانهم بالأبراج، فقصف من زميلة ألان قلبي وأوقعني ضحية وإن كان لزمن يسير، فما بالك بمن تقصف عليهم وسائل الإعلام ودوائر المجتمع بالخزعبلات ليل نهار. هاؤم اقرؤوا تفاصيل القصة في السطور التالية.
• ثيران وسرطان:
حين أخذت زميلتي -وقرينتي من الإنس على ما يبدو- تخبرني عن صفات برجي، برج الحوت، وتحاول إقناعي بالتطابق بينها وبين صفات شخصيتي، أغلقت منافذ عقلي وقلت لها "قديمة، حاولي مجددا فوصفك مطاط وقد ينطبق على أي من الكائنات البشرية وغير البشرية حتى" وأخذت أشرح لها نظريات تكوين الشخصية في علم النفس والعوامل المؤثرة في ذلك، ثم أمطرتها بقول الشاعر:
إنّ النجوم على ثلاثة أوجه *** فاسمع مقال الناقد الدهقان ِ
بعض النجوم خلقن زينة للسما *** كالدُر فوق ترائب النسوان ِ
وكواكب تهدي المسافرَ في السرى *** ورُجوم كل مثابر شيطان ِ
إلا أنها تجاهلت مقالي، وقالت أنه خيرٌ لي وبصفتي من الحوتيين أن أظل بمعية أصحاب الأبراج المائية، أي بمعية العقربيين والسرطانيين. استعذت بالله منها أولا، ومن الشيطان الرجيم ثانيا، فأي برج هذا الذي يفرض على المرء مصادقة كائنات سامة أو أمراض خبيثة؟ وحين تحدثتْ عن نفسها قالت أنها لن تتزوج إلا "ثورا" أو "جَدْيا" (والجّدْي هو التيس أعزكم الله) لأنها صاحبة برج ترابي! والصحيح -والله أعلم- أن دماغها تغطيه طبقة سميكة من التراب.
• بين آينشتاين، وشارون ستون، وأسامة بن لادن!
إلى هنا والنتيجة في صالحي، لكنها باغتتني بهجوم فكك مفاصلي الدفاعية وأعطب صواريخي العقلية حين باغتتني قائلة أن الفيزيائي الألمعي ألبرت آينشتاين حوتيّ مثلي، وأخذت تشرح ذكاء الحوتيين الغريب والخارق. وحين آنست مني إنصاتا وضعفا، زادت الجرعة وأخبرتني أن الممثلة الحسناء شارون ستون حوتيّة أيضا، وأخذت ترص العبارات في جمال الحوتيات. وما فتئت أن عززت هجومها بثالث حين أخبرتني أن الأمير الوليد بن طلال أيضا حوتي مثلي، وبشرتني بالمال الوفير والثراء الغزير.
رغم أسلحتي التي دججتها في التشنيع على المؤمنين بالأبراج طوال هذه السنوات، إلا أن قواي خارت وأخذت أطلب المزيد من الوصف عن بني الحوت. ثم جاءت اللحظة التي أسقطتني فيها بالضربة الفنية القاضية حين زعمتْ أن الإمام الشافعي رحمه الله "درس الحساب بالنجوم وحسب لزوجته الحامل فعرف متى ستلد وبأنها ستضع أنثى، لكنه قرر أن يترك ذلك لأنه يجر إلى التعطيل". كما أطلعتني على موقع إنترنتي يورد هذه الرواية. ظللت في حالة ذهول وتشويش لفترة، فأخذت أبحث وأقرأ لعلي أهتدي إلى قبس، إلى أن لجأت إلى محرك البحث "غوغل" أطال الله في عمره، وإذا بي أجد رابطا لديوان الإمام الشافعي وفيه وجدت قوله:
خبّرا عني المنجم أني*** كافر بالذي قضته الكواكبُ
عالِماً أن ما كان ويكون *** قضاءٌ من الله واجبُ
شاهِدٌ أن من تكهن أو نجم *** زارٍ على المقاديرِ كاذبُ
ورغم أن الحقيقة بدأت تسطع، إلا أني انتفضت من مكاني إذ أزعجني أن أفقد موقعي بين هؤلاء الرائعين، فبريق الأسماء الثلاثة حجب الرؤية عن عقلي، فمن يرفض أن يصنّف مع الناجحين اللامعين؟ شعرت حينها بشيء من الذنب وبدأ الصراع الداخلي يحتدم في نفسي وعقلي. وذات مرة لجأت إلى موسوعة "ويكيبيديا" الإلكترونية لأتأكد من تواريخ ميلاد المشاهير الذين ذكرتْهم لي، وأطمئن أني فعلا في زمرتهم، زمرة الحوتيين الرائعين كما كنت أظن. أثناء بحثي وجدت تاريخ 10 مارس وهو يقع في إطار برج الحوت، ومن ميزة "ويكيبيديا" هي أنها تمكنك من الإطلاع على الأحداث والولادات والوفيات التي حدثت في يوم معين. وأثناء استكشافي لمواليد هذا التاريخ وجدت اسمين: شارون ستون، وأسامة بن لادن! تركت حاسوبي وتوجهت نحو القبلة لأصلي ركعتين شكرا على انعتاقي من الوهم.
لم ألتق بهذه القرينة مجددا، لكن أتحدى أن يشرح لي أحد المنافحين عن الأبراج الصفات المشتركة بين أسامة بن لادن وشارون ستون إلا إذا كان القصد أن كليهما يمتهن الدمار لكن بطريقة مختلفة. ثم ألم تلاحظوا أعزائي أنّ كتب الأبراج تنتقي وبدقة وعناية أسماء بعض النجوم من المشاهير وتسطرها لنا لتمس حاجة أو هوى أو اهتماما في نفس كل منا؟ لكن ماذا عن الفاشلين من أصحاب البرج أو المجرمين أو غير المحبوبين؟ لم لا نجد لهم ذكرا يا ترى؟
• قطع العلم قول كل مشعوذ
وإذا كنتم مُصرين على إفككم أيها الخزعبليون، تعالوا إلى كلمة سواء، تعالوا نجمع عينة من أصحاب برج ما ونجري حصرا لصفاتهم المشتركة، فإن انطبقت فأنا أول المؤمنين. بل يسعدني كثيرا أن أنقل لكم نتائج دراسة أجرتها جامعة مانشستر على 20 مليون زوج وزوجة في إنكلترا وويلز تبين فيها أن ما تروجون له محض كذب أَشِر (راجعوا جريدة القبس يومي 27 و 30 مارس 2007، الصفحة الأخيرة).
في عام 1975 وقع 186 عالما (من بينهم 19 عالما حائزا على جائزة نوبل) بيانا أسموه Objections to Astrology بينوا فيه أنّه لا يوجد أي أساس علمي للأبراج، وأن ممارسيها دجّالون. البيان المكوّن من 64 صفحة نُشر ككتيب ويمكن الإطلاع عليه مجانا عبر مكتبة Questia.com الإلكترونية. (اضغط هنا لقراءته )
لم يتطلب الأمر مني عقلا كعقل آينشتاين لأدرك حقيقة الأمر، فباقتناص شيء من العقلانية في التفكير افتديت نفسي من أسر الترّهات. لكن كم من بني يعرب –وبناته بشكل أخص- لا يزالون أُسارى ولا يفاديهم أحد؟
إن لم نفعل شيئا، ستظل هناك أمم تخترق الفضاء وتحلق إلى النجوم، وسنظل أمة تتحلق تجاه النجوم. سيطيرون نحو المعالي، أما نحن فسنتطير بقطع من الحجارة ترصع السماء، وتصرع عقولنا بالأدواء.