بين المطامح والاماني فارق جوهري يجهله كثير من الناس، فذو الطموح عندهم هو كل حالم بتحقيق امانيه، فتتسع بذلك دائرة التعريف لتشمل الخلق كلهم اذ لا يخلو احد من احلام مستقبلية متفائلة تداعب مخيلته وتدغدغ عاطفته، والحق ان الطموح اعظم من ان يكون على هذ النحو المغرق في التسطيح، انه مشروع انساني معقد يقوم على المواءمة بين حجم قدرات الفرد من ناحية، وما يتناسب معها من مشاريع عمرية جليلة من ناحية اخرى، ولما كان السواد الاعظم من المتمنين لا يحسن ضبط هذا المعيار فمن البدهي ان تقتصر دائرة الطموح على افراد قلائل يحسنون رسم خرائطهم الاستشرافية. وأما صاحبنا (طموح) الذي نكمل سرد حكايته اليوم فهو واحد من تلك الثلة القليلة، فقد شرع في قطع رحلة (5475) يوما نحو اقتناص الدكتوراه، وكانت خطوته الاولى في اتجاه تحصيل الشهادة الثانوية، حيث التحق بالدراسة المسائية، وغدت المدرسة عنده كعملة ذات وجهين: يغدو اليها اول النهار موظفا مستخدما (امين مخزن)، ويروح اليها اخره تلميذا متعلما! وقد ادرك جيدا ان الحصول على الشهادة ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة مهيأة لانتزاع مقعد في الجامعة التي يزدحم على ابوابها المتقدمون، ولذا فقد استعد لاختبار الشهادة الثانوية استعدادا مضاعفا وتمكن من تحصيل نسبة عالية أهلته للقبول في الجامعة، لقد احسن (طموح) ابتداء قياس حجم قدراته وتعرف بذكاء الى ميوله ورغباته، ولذا وقع اختياره على ثانوية المعهد الديني ليلتحق عقب تخرجه بكلية الشريعة، كما احسن استغلال الفرص المتاحة له حين نجح في الحصول على اجازة دراسية هيأت له الجو المناسب للجمع بين الدراسة المنتظمة والقيام بشؤون اسرته التي اخذت تكبر بمرور الاعوام.
وفي المرحلة الجامعية كانت احدى عينيه ترقب البكالوريوس بينما كانت الاخرى ترقب الدراسات العليا، ولذا وضع (طموح) نصب عينيه تحصيل معدل مرتفع ليتمكن من الالتحاق ببعثة للدراسة العليا، وقد اقتضى ذلك منه جهدا وصبرا حمد اثرهما حين تمكن بسهولة من التقدم على نظرائه المتقدمين للبعثات، وارتحل بعيدا عن الكويت متجشما قسوة الاغتراب ومسؤولية الاسرة ومتطلبات الدراسة المرهقة حتى بعد سبع سنين عجاف من تحقيق طموحه بالحصول على شهادة الدكتوراه ليعود استاذا اكاديميا يعلّم ويثقف طلابه الذين لا يخطر على بالهم ان استاذهم الكبير لم يكن قبل ربع قرن سوى امين مخزن مغمور بين الدفاتر والكتب واصابع الطباشير لا يرفع احد به رأسا، فسبحان مصرف الامور!
ان للطموح استراتيجيته الخاصة التي تتطلب الجمع بين صفتين متناقضتين معا: بعد النظر وقصره! فبعد النظر مطلوب عند صياغة الغاية ابتداء، فلا ينبغي للطامح ان يحتقر قدراته ويستصغر شأنه فيكتفي بالمطامح الهينة القريبة التناول بل عليه ان يبعد النظر نحو غايات شريفة عزيزة متمثلا قول ابي الطيب:
اذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في امر حقير
كطعم الموت في امر عظيم
واما قصره فلا غنى عنه عند كل مرحلة جديدة يقتحمها الطامح من مراحل دربه الطويل، فيفرغ قلبه وعزمه لها فلا ينشغل بغير ما انهمك فيه دون ان يهلك نفسه بمقاساة هموم المراحل التالية، فانه مما يقتل الطموح ويفت في عضد صاحبه ان ينصرف فكره الى المرحلة القصوى منه بينما لا يزال في المرحلة الدنيا، وحينئذ تبعد عليه الشقة وتتعاظم في عينه جسامة العبء، فيبدو مطمحه بعيد التحقيق عسير المنال، فهو كالشارع في بناء مؤلف من عشرين طبقة وقد حمل هم الطبقة العشرين بينما لا يزال بناؤه في طور تأسيس الطبقة الاولى! ان التفكير الوسواسي متى ما تمكن من قلب الطامح قلب طموحه الى يأس وخيبة واحال احلامه الخضراء خرائب واطلالا، فالحذر الحذر معاشر الطامحين!.