نفتقد الدراسات الاجتماعية التي تدرس الظواهر الجماعية، بينما لدينا (تخمة) في الدراسات النفسية التي تركز على الظواهر الفردية، وهذا أحد مظاهر تحولنا لمجتمعات مادية تزداد فيها الهوة اتساعًا بين الأغنياء والفقراء، وتضعف فيها مظاهر التكافل والترابط الاجتماعي.
وافتقادنا لهذه الدراسات هو جزء من افتقادنا لعلوم ومعارف أخرى مفيدة، مثل الدراسات النقدية، حتى غدا (شباك التذاكر) وتوجه العامة هو معيار الذوق العام، دونما إرشاد أو توجيه من نقاد مختصصين.
أعود لعلم الاجتماع وأقول بأن ظاهرة (العودة للدراسة) من الظواهر التي تستحق الدراسة، إذ نجد آلاف الكويتيين والكويتيات يدرسون اليوم في بلدان عربية وأجنبية هي مصر والأردن والبحرين وبريطانيا وأمريكا، بجانب مئات في فرنسا ولبنان وغيرهما، فلماذا تحدث هذه الظاهرة؟
قد تعبر عن حاجة للأمان النفسي، فالمدرسة – بكل المراحل – تعبر عن حصن آمن يرعاه مديرها أو ناظرها، وسط عالم متوحش في الخارج، كما أنها هروب من مشاغل ومشاكل الحياة، عبر صرف الانتباه عنها والتركيز على أمور لطيفة ومفيدة مثل حضور المحاضرات وتدوين الملاحظات وتبادل المذكرات والاستعداد للامتحانات.
وقد تعبر عن شوق لعلاقات الزمالة وصداقات الدراسة السابقة، وسط جفاف المشاعر والمصلحية اللذان يمثلان السمة الشائعة لعلاقات مجتمعات اليوم، ويعزز هذا قيام زملاء العمل بالطعن ببعضهم البعض من أجيل نيل ترقية، أو إيذاء الجيران لجيرانهم، أو تشاجر الإخوة على ميراث والدهم المتوفي!
أم أنها تعبر باختصار ووضوح عن حاجة اقتصادية، تهدف إلى تعديل المستوى الوظيفي وتحسين المدخول الشهري ورفع العائد المادي، خصوصًا مع موجة الغلاء والارتفاع المستمر لتكاليف المعيشة، والذي زاده تفاقمًا تحوُّل الكثير من الكماليات لضرورات، مثل الهواتف النقالة واللباس الأنيق والخروج للترويح المدفوع كالسينما أو المطعم، بدل الخروج في نزهات إلى حديقة عامة أو شاطيء البحر.
وربما عبرت عن رغبة للارتقاء في سلَّم المكانة الاجتماعية، عبر (PRESTIGE) الدكتوراة أو (SHOW) الماجستير أو غيرهما من خطوط الموضة الأكاديمية.
عمومًا – وبغض النظر عن أسبابها الاجتماعية أو النفسية أو الاقتصادية – فإنه تظل لهذه الظاهرة الاجتماعية الكثير من الإيجابيات وتتمثل في:
أولاً. فضيلة طلب العلم: فهو – متى ما خلصت النوايا – عبادة يتقبلها الله ويعلي مقام فاعلها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع).
ثانيًا. رفع المستوى الثقافي للمجتمع: وتختفي مع زيادة الثقافة ومحو الأميَّة الكثير من الظواهر السلبية المصاحبة للجهل، وترتفع سرعة ملاحقة المجتمع للعلوم والصناعات الحديثة.
ثالثًا. تشكل طبقة واسعة من أبناء المجتمع (المعولمين) على مستوى عقولهم وعلاقاتهم، وجاهزين للعمل ضمن فرق عمل متنوعة ومدربين على التواصل مع الآخر والتفاعل معه إيجابيًا، مع الاحترام المتبادل للخصوصيات.
على أية حال فإنني ألفت النظر لهذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة، آملاً أن تلقى مزيدًا من الاهتمام والاحتضان من المسؤولين، فالمسؤول الواعي هو أفضل بكثير من تجّار الشهادات، طالما لم يكن المسؤول من النوعية التي تتعمد وضع العراقيل بعذر أو بدون عذر أمام عودة أبناء وبنات الكويت للمدارس! والحمد لله أولاً وأخيرا.