إن الناظرَ إلى نتاج المزيج الثقافي المجتمعي المسلم بصورته الحالية لَيرى جليًّا الحاجة لإعادة بناء الأُلفة المجتمعية، التي أصاب بنيانَها بعضُ الشروخ، وبات يؤثِّر ذلك على أمزجة الناس وسلوكياتهم، فأضحى هذا بمجمله نمطًا فكريًّا جديدًا، غريبًا على المجتمع المسلم المحافظ، بما يحمله من نتائجَ سلبيةٍ، وتناقضات قِيميَّة تؤثِّر على المجتمع في قابل الأيام.

وأطلب هنا من أهْل النخبة المجتمعية والجميعِ وقفةً جادة لمراجعة النفس وتزكيتها؛ بغرض إبعاد الحواجز الفكرية السلبية، المتعلِّقة ببعض علاقاتنا المبنيَّة على أحكام وافتراضات مسبقة، فهذا يؤدِّي بطبيعة الحال إلى الخلاف والاختلاف، فلا يمكن للألفة المجتمعية أن تتحقَّق إلا في حال نظرنا إلى الأمور بمنظار الاتِّفاق، فحينها يصبح تحقيق الألفة المجتمعية عمليةً سهلة، وبَذْلُ أسبابها لا يحتاج إلى مشقَّة؛ فالألفةُ عملية فطرية عفوية، تنشأ ما بين الناس بمختلف عقائدهم وقيمهم من خلال علاقاتهم التفاعلية المختلفة، ويمكن صقلُها وتنميتها مع مرور الزمن.

إن بناء الألفة بمختلف أنواعها - المجتمعية، والمؤسسية، والأسرية، وغيرها - تُعدُّ عملية مشوقة؛ لأنها تلامس جوانبَ مختلفةً في العلاقات الإنسانية؛ فالقدرةُ على التعايش والتعامل مع الآخرين تمكِّننا من النجاح في غالب أوجه الحياة، وتحقيقُ الألفة مع ذواتنا في الأصل يحقِّق الألفة مع الآخرين، ويعتمد ذلك على مدى إدراكنا للأمور المختلفة في الحياة، وفهمنا الحقيقي لوجهة نظر الطرف الآخر، ونتائج تعاملنا معها، ومدى استثمارنا لها إذا ما كانت إيجابية.

إن أحد ركائز الألفة هو المرونة، التي تعني - في جانب منها -: إمكانيةَ الحصول على اختيارات متعددة للمواقف في تحقيق الألفة المنشودة، فكلما زادتِ الخيارات المتاحة لموقفٍ ما مع التعاطي معها، كانت النتائج التي نحقِّقها أكثرَ إيجابيةً وتأثيرًا، وأصبح مزاج المجتمع العام أكثرَ هدوءًا، وأفضل إنتاجًا، ولن يتسنَّى ذلك إلا بأن تكون العقيدة الحقَّة مصدرَ قيمِنا الشخصية ولا تخالفها، وبعد ذلك سوف نجد انسجامًا طيبًا ما بين القلب والعقل، مما ينتج عنه توافقٌ ما بين القول والفعل، حتى تجد المجتمع بعد فترة قصيرة يتبنَّى أساليبَ تواصليةً فاعلة، وسلوكياتٍ جديدةً، تسمو بهذا المجتمع، وتجعله يرتقي بالألفة والرحمة والمحبة، وليس بالبناء المادي - كما يعتقد أو يظن البعض.

أخيرًا:
 إن بحثنا في هذا الموضوع، والذي تم نشره على شكل كتاب أسميناه: "اتصال النفوس، تطبيقات في التواصل والسلوك الإنساني"، جعلَنا نؤمِن إيمانًا مطلقًا بأن ممارستنا للألفة والتوافق في ظل الضوابط الشرعية، تفتح لنا آفاقًا رحبة للتعارف على الآخرين، من خلال تبنِّينا لسلوكيات جديدة، وفرص محتملة لعلاقات إنسانية لم نكن نراها من قبل، ويمكننا استثمارها؛ وقد قال – تعالى - : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبير} (الحجرات: 13)

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية