على الرغم من إعتراف فرنسا الرسمي بالديانة الإسلامية التي يدين بها خمس ملايين مسلما فرنسيّا في فرنسا ورغم مبادرتها إلى تشكيل المجلس الإسلامي الذي يمثل الجاليات المسلمة في فرنسا إلاّ أنّ فرنسا الرسمية ما زالت غير مقتنعة لحدّ الآن بمسألة الحجاب وما زالت تتذرّع بقوانين العلمانية الفرنسية التي تنص على منع الحجّاب وتحديدا في المعاهد والمؤسسّات التربويّة , وقد بات بعض المسؤولين على هذه المؤسسّات التربويّة يمنعون المسلمات المحجبّات من مزاولة الدراسة إلى أن يخلعنّ الخمار الذي يغطّي رؤوسهنّ . وعقدة الحجاب في فرنسا ما زالت تتفاعل إلى يومنا هذا , علما أنّ المسلمين من المغرب العربي – الجزائر وتونس والمغرب – قد ساهموا إلى أبعدوا الحدود في تحرير فرنسا من الإحتلال النازي وقدموا آلاف الشهداء والقتلى في معركة نورمندي الشهيرة سنة 1944 والتي أفضت إلى تحرير فرنسا والتي بموجبها حصل آلاف المغاربة على أوسمة من الجنرال شارل ديغول نفسه بإعتبارهم ساهموا في إبعاد النازيين عن فرنسا , كما أنّ المسلمين الفرنسيين الذين هم من أصول مغاربية و عربية وإسلامية كان لهم فضل كبير في الخمسين سنة الماضية في بناء النهضة الفرنسيّة في كل المجالات , كما أنّ فرنسا لم تتعظ كثيرا مما يحدث في العالم حيث قد يؤدي حرمان المسلمين من ممارسة شعائرهم و مناسكهم إلى ردود فعل سلبية خصوصا وأنّ قضيّة الحجاب قضية شخصيّة تتعلق بملابس خاصة و بمظهر المرأة المسلمة حسب مقتضيات الشرع الإسلامي . وعلى إمتداد السنتين الماضيتين كانت قضيّة الحجاب الشغل الشاغل لمسلمي فرنسا الذين طالبوا السلطات الفرنسيّة بعدم تعقيد هذا الموضوع وإعتباره يتصادم مع العلمانيّة الفرنسيّة , وقد دخل على هذه الأزمة المفتعلة شخصيّات المجتمع المدني الفرنسي و أصدرت مائة شخصية فرنسية علمانية بيانا نشرته الصحف الفرنسية وفيه يطالبون السلطات الفرنسية برفع يدها عن الحجاب الإسلامي و إعتبار الحجاب حالة خاصة لا تتقاطع مع القوانين العلمانية التي تمّ وضعها قبل مائة سنة و أزيد من ذلك , وقد طالب هؤلاء العلمانيون الفرنسيون و الذين قوامهم أساتذة جامعيون وكتّاب وممثلو قوى المجتمع المدني الرئيس الفرنسي بإنهاء هذه المعضلة التي باتت تؤرّق المسلمين في فرنسا والذين باتوا يشعرون أنّهم مهددون في أداء مناسكهم . وطالب هؤلاء العلمانيون بعدم الخلط بين العلمانية و مبادئها وهذه المسألة التي لا تهددّ العلمانية لا من قريب ولا من بعيد .
ثمّ لماذا يحقّ للأقليات الدينية الأخرى أن تعيش وفق مقاييس فكرها وثقافتها الدينية ولا يحقّ ذلك للمسلمين . و طالب العلمانيون الذين يمثلّون المجتمع المدني الفرنسي السلطات الفرنسية بإنهاء مآسي الطالبات المسلمات اللائي بتنّ قلقات على مصيرهن ومستقبلهن بسبب الحجاب وبسبب تكرر ظاهرة طرد المحجبّات من المدارس الفرنسية بحجّة الإلتزام بقوانين العلمانيّة الفرنسيّة . وتجدر الإشارة إلى أنّ وزير التربيّة والتعليم الفرنسي لوك فيري قال أنّ بلاده تحتاج لقانون جديد لتكريس القيم العلمانية في مدارسها الحكومية في مواجهة التيارات الإسلامية المتشددة بين التلاميذ المسلمين وتنامي التيار المناهض للسامية.
وأضاف أن فرنسا التي تضم أكبر جاليات إسلامية ويهودية في أوروبا تواجه تحديات لم يسبق لها مثيل من تيار جديد معاد للسامية يغذيه التطرف الإسلامي وليس اليمين المتطرف الذي كان عادة يقود مثل هذه الاتجاهات المناهضة لليهود .وجاءت هذه البيانات والتصريحات وسط عودة الجدل بشأن الإسلام والحجاب في فرنسا و الذي أثاره وزير الداخلية نيكولا ساركوزي الذي قال أمام حشد كبير من المسلمين انه يتعين على النساء خلع الحجاب لإلتقاط صور بطاقات الهوية.
والعلمانيّة كما هو معروف مفهوم سياسي وإجتماعي نشأ في عصر النهضة الأوروبية أو عصر التنوير كما يصطلح عليه مجموعة من الكتّاب والمفكرّين الغربيين , وقد عارض المفهوم العلماني سيطرة الكنيسة على الدولة و المجتمع على حدّ سواء , كما رفضت العلمانيّة رفضا مطلقا ظاهرة تنظيم المجتمع على أساس ديني كنسي . وفصلت العلمانية في أوروبا عموما وفي فرنسا خصوصا بين الممارسة الدينيّة والممارسة السياسية , وأعتبرت الأولى فعلا شخصيّا والثانية ممارسة إجتماعية يستوي فيها كل المواطنين . وعلى الرغم من أنّ منظرّي العلمانيّة يدعّون أنّ العلمانية ذات بعد إنساني وقد إنطلقت كفكر يمجّد الإنسان إلاّ أنّها تلاحق الإنسان في خصوصياته كما حدث في فرنسا عندما منع العديد من الطالبات المسلمات من إرتداء الحجاب , رغم أنّ هذه الطالبة المحجبّة لا تهدف إلى الإضرار بالقوانين العلمانيّة و النظام السياسي في فرنسا ومع ذلك تتمّ محاربة الحجاب في فرنسا كما لو أنّ الحجاب ظاهرة تضرّ بالأمن القومي الفرنسي والأمن الثقافي والحضاري في فرنسا .
وقد بدأت محنّة المسلمات المحجبّات في فرنسا في شهر تشرين الأول – أكتوبر سنة 1989 عندما قامت مدرسة متوسطة فرنسيّة بطرد ثلاث طالبات مسلمات بسبب إرتدائهنّ للحجاب , وقد حاول وزير التربية في ذلك الوقت ليونيل جوسبان الذي ينتمي إلى الحزب الإشتراكي الفرنسي والذي أصبح فيما بعد رئيسا للوزراء في حكومة التعايش بقيادة الديغولي جاك شيراك إلى تهدئة المسلمين وفتح قنوات حوار معهم , و سبب تحرّك ليونيل جوسبان لتطويق الأزمة ومحاولة إيجاد قنوات حوار بين المؤسسة التربوية و أولياء التلاميذ يعود إلى مساعي الحزب الإشتراكي الفرنسي لإستمالة المهاجرين العرب والمسلمين والذين يتمتّعون بحق المواطنة الفرنسيّة لصالحه بإعتبار أنّ أصواتهم مؤثرّة في الإنتخابات العامة في فرنسا .
وقد تمكنّ الحجاب في فرنسا من تحقيق إنتصار كبير عندما حكم مجلس الدولة الفرنسي لصالح المحجبّات و أعتبر هذا المجلس في شهر تشرين الثاني – نوفمبر من عام 1989 أنّ الحجاب لا يضرّ بتاتا بالقيم العلمانية التي تسير الدولة الفرنسية على هداها , وإذا كانت العلمانية تعني فصل الدين على الدولة فإنّ إرتداء الطالبة المسلمة للحجاب لا يؤثّر على هذا الفصل بل مصداق الحجاب لا ينطبق على مفهوم العلمانيّة . ومع إضطراد عدد الملتزمين بإسلامهم في فرنسا وإقبال المسلمين على أداء فروضهم وواجباتهم الدينيّة أصبحت الظاهرة الإسلامية في فرنسا ملفتة للنظر , بل إنّ المسلمين أصبحوا رقما مؤثرّا في المعادلة السياسية الفرنسية بدأت الدوائر العلمانية سواء في خرائط القرار أو الإعلام من إثارة موضوع الحجاب مجددّا وخصوصا بعد الأحداث الدامية التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية في أيلول – سبتمبر 2001 .
وقد ذهب رئيس وزراء فرنسا جان بيار رافران إلى أبعد من ذلك عندما أعلن أنّه مع حظر الحجاب في فرنسا , رغم أنّ عدد مسلمي فرنسا قد بلغ رسميّا حوالي خمس ملايين مسلما أي أكثر من سكان بعض الدول العربية الإسلامية مجتمعة .
و يهدف الرسميون الفرنسيون من وراء حملتهم لتطويق ظاهرة الحجاب إلى إدماج المسلمين بشكل كامل في المجتمع الفرنسي والثقافة الفرنسية وهذا ما يفسّر فتحهم كل الأبواب للمطربين و الممثلين والفنانين والكتّاب من أصل مغاربي ومسلم من الذين إنسلخوا عن قيمّهم الحضارية ومبادئهم الإسلامية وصاروا أكثر إنحرافا في مسلكيتهم الأخلاقيّة من الفرنسيين , ليكونوا قدوة للأجيال الإسلامية المهاجرة والمولودة في فرنسا حتى تسلك المسلكيّة نفسها , ولسان حال الرسميين في فرنسا أن تنفصل عن دينك الإسلامي فهذا منطلقك نحو النجاح والتكامل مع المجتمع الفرنسي , و العجيب أنّه يسمح للمرأة المسلمة غير الملتزمة بدينها أن تمثّل في أفلام خلاعيّة فرنسيّة ولا يسمح لها بإرتداء حجابها الذي هو مسألة شخصيّة بحتة . وسوف تكون أمام المجلس الإسلامي الذي يمثّل مسلمي فرنسا والذي شكلتّه الحكومة الفرنسية ليكون الوسيط بينها وبين مسلمي فرنسا مهمات عاجلة وصعبة يجب أن تؤدّي إلى إنجاح مسألة التعايش بين الثقافات و التوفيق بين المفاهيم الفكرية والحضارية دون المساس بمرتكزات الشرع الإسلامي الذي قرّره المشرّع الإسلامي لخدمة الإنسانية والبشريّة قاطبة !