تي خراب الحياة الاجتماعية من خراب القيم التي تسود فيها، ومن القيم الفاسدة أن الحياة غابة، وهي صراع بين القوي والضعيف، فعليك أن تكون شرساً مع الآخرين، وأن تتمثل بصفات الجبارين المعتدين حتى لا تؤكل، فإما أن تكون ذئباً بين ذئاب الحياة، أو تكون فريسة لتلك الذئاب، فلا مكان للضعفاء في الأرض، ولا رحمة ولا قانون عند الأقوياء، ومهما كانت الحملان وديعة وبريئة، فإن هذا مما يغري الذئب بالسطو والاعتداء، فعليك في قانون الغابة أن تكون مفترساً حتى تسلم من أذى الأشرار، قال زهير:

ومنْ لا يذدْ عن حوضهِ بسلاحه يهدمْ ومن لا يَظلم الناسَ يُظلمِ وكلمة: (إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب) تسمعها مرارا من مختلف طبقات الناس، وهذه الكلمة الموجزة تحمل مضموناً كاملاً للحياة، ولو تمثلنا بها ضد أعدائنا من الغزاة والمحتلين لكان الأمر سهلاً، ولكن المؤسف أن نتمثل بها في مجتمعاتنا الإسلامية ضد بعضنا البعض، فالغني يأكل الفقير، والقوي يأكل الضعيف، والقاتل والسارق والمرتشي وجميع الخارجين على القانون يبررون أفعالهم القبيحة بمثل تلك الكلمة.
وهذه الكلمة يمكن أن ننظر إليها بمنظارين:
الأول: منظار الإنسان الذي يريد أن يحظى بما يستطيع من متاع الدنيا وحطامها بأية وسيلة كانت، فلا عجب لمثل هذا المنافس على مغانم الأرض أن تكون هذه الكلمة شعاره ومنهجه، ففما هو إلا ذئب يسيل لعابه عند رؤية كل فريسة، ويحمل في نفسه الحقد والشراسة تجاه المجتمع.
والثاني: منظار الإنسان الذي يريد أن يعيش حياة سوية، ملتزماً بهدي دينه، محترماً للقانون، فينال من المتاع ما قسم الله له، ويسعى في نصرة الحق وأداء الواجب، ومثل هذا لا يمكن أن يكون ذئباً يسعى لافتراس غيره، ولا أن يكون حملاً تلتهمه أنياب الذئاب، وإنما يسلك سبيل العفة والتسامي، وينهج نهج الملائكة الكرام لا نهج الحيوانات المفترسة، وينظر إلى القوة على أنها أداة لإحقاق الحق لا إخراسه ودعم الباطل، وهو يأبى الانخراط مع عصابة الذئاب الدنيوية التي تجمعها المصالح العاجلة، فهذا خير له من أن يكون ذئباً يعتدي على الناس ثم يقتصون منه يوم القيامة، فالمؤمن سيف من سيوف الله، يقيم الله به الحق والعدل، لا ذئب حقد وطمع وجشع.
إن الحياة في ظاهرها تبدو بأنها صراع بين القوي والضعيف، وفي حقيقتها هي صراع بين الخير والشر، والحق والباطل، إنها ابتلاء وامتحان للناس، وعلى العاقل أن يكون مع الحق والمنطق لا مع البطن والشهوة، بمعنى أن يكون عبداً ربانياً لا ذئباً بشرياً، وهو ما أشارت إليه آيات عدة، قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48)، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام:165)، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (هود:7). وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك:2).
وعليه فإن فسلوك الإنسان يجب أن لا يحكمه الحرص والطمع والنزوع نحو تحقيق المصالح المادية المؤقتة الفانية، وإنما يجب أن يكون وفق منهج الله في الأرض، فلا يحشر نفسه في زمرة أهل البغي والظلم والعدوان، ولا مع المستكبرين والمفسدين، ولا يكون عوناً لهم، ولا يتكالب على الدنيا بقصد جمعها ولو على حساب الآخرين، بل هو على النقيض من ذلك تماماً، يقف مع المظلوم ضد ظالمه، ومع الضعيف ضد القوي، وقد يدفع حياته ثمنا لموقف شريف، وهيهات أن يكون ذئباً مثل غيره، يصول ويجول ليأكل لحوم البشر، ويأخذ الدنيا من دماء ضحاياه ودموعهم وأشلائهم، فالدنيا رحلة مؤقتة، وفي الآخرة قصاص عادل، والميزان فيها يزن بالذرة فما أعدله من ميزان! قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:12).
إن الحياة ليست غابة إلا في مفهوم من لا يؤمن بآخرة ولا جنة ولا نار، فهذا ينكب على الدنيا لا يطلب سواها، فهو يعمل كل ألوان الجرائم لأنه لا يؤمن بثواب ولا عقاب، أما المؤمن فهيهات أن يعتدي لأن الله لا يحب المعتدين، ولا يظلم، وإنما يكون من حراس العدالة، ومما يؤكد ذلك وصايا الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لقادة جيوش الفتح، بأن يكونوا على أخلاقية عالية تتناسب وعظمة الإسلام، فلا يُُقتل طفل ولا شيخ ولا امرأة، ولا يحرق زرع، ولا تهدم دور العبادة، فلو كان المؤمنون ينظرون للحياة على أنها غابة لفعلوا ما فعله هولاكو والصليبيون من قبله من قتل للعلماء، وحرق للكتب، واعتداء على الأعراض... ولكن هيهات لمن لامست قلوبهم بشاشة الإيمان أن يكونوا وحوشاً أو ذئاباً، وإنما كانوا ملائكة رحمة تنقل البشرية من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والاخرة.
ويجب أن نفرق بين الحرص على القوة وبين العدوان، فالقوة في جميع صورها مطلوبة للأمة أفراد وجماعات، ولكنها قوة مضبوطة بقوانين العدالة، ومحكومة بأخلاقية عالية، وليست قوة بطش وإرهاب، والمسلم أرفع من أن تكون أخلاقه قائمة على مبدأ : إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، لأنه ينظر إلى أفراد المجتمع على أنهم إخوة له، يتعاون معهم ولا يتصارع، ويصفح عنهم إذا أساؤوا، قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: من الآية2)، وقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(آل عمران: من الآية134)، وقال: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى:37)، وقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63).
وأما في المجتمعات غير المسلمة فالحال نفسه، فلا يكون ذئباً أيضاً، بل هو أكثر التزاماًً بالقيم والأخلاق، لذا فقد أسلم كثير من الشعوب في جنوب شرق آسيا على أيدي تجار المسلمين لما رأوا أخلاقهم الرفيعة، فالمؤمن يجب أن يحمل إسلامه أين ما ذهب، وأن يكون قدوة للناس في فعل الخيرات وترك المنكرات، فإذا ما رأوه أحبوا الإسلام، وما لم يكن الأمر كذلك فهو المسئول الأول عن ما يقع للإسلام من عقبات في تلك المجتمعات، لأنه لم يسلك سلوكاً قويماً، ولم يبين للناس الدعوة بالحسنى، قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125).
مرة أخرى نقول: إن المطالبة بالحق والدفاع عنه سواء كان شخصياً أم جماعياً أمر مشروع في الإسلام، ولكن ليس معنى المطالبة أن يكون المرء ذئباً، لأن الذئاب فيها الغدر والخسة، وإنما ليكن كما كان خالد بن الوليد سيفاً من سيوف الله تعالى، أو كما كان حمزة أسد الله ورسوله، وليبتعد عن خسة الذئاب.
إن عبارة إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب علمت كثيراً من الناشئة أن يكونوا بمنتهى الوقاحة والشراسة مع الآخرين، وعلمتهم الانتهازية واللا مسئولية، وهذه العبارة لا ينبغي أن تكون مساغة في أمة الرحمة والنور، كيف يتصدى الناس للإصلاح إذاً ويتحملون في سبيله التبعات إذا كان هذا منطقهم؟ إن المصلح يعطي ويتحمل ويصبر على كل ما تثيره ذئاب الشر ضده، فهل يستطيع أداء رسالته إذا كان ذئباً مثلهم؟ أم يكون عدواً للإصلاح وعدواً للمصلحين؟
ألا ما أغنانا عن مثل هذه المفاهيم الفاسدة: إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب! وما أحوجنا إلى العودة إلى الأخلاقية الصادقة التي دعا إليها القرآن الكريم، قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34).
ما أحوجنا إلى أن نربي أجيالنا الصاعدة على القيم الإيجابية من المحبة والتسامح والتعاون، أن نربيهم على احترام الآخر والالتزام بالقانون ونبذ الفوضى، وحب الوطن، وتلبية النداء، واجتناب الظلم والعدوان.
إن الإنسان في الحياة ينبغي له أن يحصل حقوقه، ويطالب بها، فإذا ظُلم ولم ينصفه القانون خير له من أن يَظلم، لأن الله سينتصر للمظلوم من الظالم، جاء في حديث نبوي طويل يذكر الثلاثة الذين تكلموا في المهد قصة فيها عبرة نذكرها: (... وبينا صبي يرضع من أمه، فمر رجل راكب على دابة فارهة، وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا. فترك الثدي وأقبل إليه، فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله. ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع... ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل. فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها. فهنالك تراجعا الحديث، فقالت: مر رجل حسن الهيئة، فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله. ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها، ويقولون: زنيت سرقت، فقلت: : اللهم لا تجعل ابني مثلها. فقلتَ: اللهم اجعلني مثلها. قال: إن ذلك الرجل كان جباراً، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت سرقت، ولم تزن ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها) .

وخلاصة القول: إن الأفعال بعواقبها يوم القيامة، وليست في الدنيا وحسب، لذا ينبغي أن نربي أجيالنا على المبادرة والمنافسة الشريفة بعيداً عن لغة الصراع والعدوان، فلم تتطور المجتمعات الأخرى إلا بوجود القانون واحترامه، ولم يتأخر من تأخر في هذا العالم إلا بسبب الفوضى والصراع الاجتماعي والانتهازية، حيث يرى كثير من الأفراد في البلاد المتخلفة أن من حقهم أن يفعلوا بالآخرين ما يشاؤون، طالما أنهم يعتقدون بأن الدنيا غابة وسكانها ذئاب، متناسين بأن هنالك جزاء عادلاً ينتظر الجميع، قال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (ابراهيم:42).

كلمة أخيرة:
قد يورد بعضهم العبارة السابقة: إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب بقصد المبادرة واليقظة، ولكن نبل القصد ينبغي أن لا يجعلنا نستخدم هكذا عبارات، لأن الكلمة قد تفسر حسب سياقها، وأولى أن نستخدم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ) (النساء:71)، وقوله عليه السلام: (المؤمن كيس فطن)، وفي المأثور من الشعر العربي ما يثري ويغني، فأكثره كان في الحماسة والفروسية والنبل واليقظة والإقدام، قال طرفة ابن العبد:
أنا الرجلُ الضربُ الذي تعرفونَهُ خشاشٌ كرأسِ الحيةِ المتوقـدِ
وقال معن بن أوس المزني:
إذا أنتَ لم تنصفْ أخـــــاك وجدتَهُ
على طرفِ الهجرانِ إنْ كانَ يَعقـلُ
ويركبُ حدَّ السيفِ منْ أنْ تُضيمَهُ
إذا لم يكنْ عن شفرةِ السيفِ مزحلُ

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية