رأيتُ شأنك عجيباً، أيها الإنسان، في أيِّ مكان، وفي كلِّ زمان. فهل رأيتَ كما رأيت؟
هل جلست -أو وقفت- يوماً، متأمّلاً شأن هذا المخلوق العظيم، الذي يُدعى الإنسان؟
ألم يلفت نظرك وفكرك ما في هذا المخلوق من عجائب وأسرار؟
ألم تصل في آخر المطاف إلى أنّ ثمة أسراراً وخبايا، في خلق هذا الإنسان، لم تكتشف بعد، وأنه لا زال "الإنسان ذلك المجهول"([1]).
فكم بحث الأطباء وعلماء الأحياء، منذ زمن بعيد وإلى الآن، في جسم هذا الإنسان، ولا يزالون يكتشفون المزيد. وكم بحث الفلاسفة وعلماء التربية وعلماء النفس، في نفس هذا الإنسان، ولا يزالون يكتشفون المزيد المزيد.
ألم يستقر في ذهنك أنَّ هذا المخلوقَ مخلوقٌ لمَهَمَّة عُظمى، وغاية كُبرى، في هذه الحياة الدنيا؟
هذه التساؤلات، وأشباهها، سيجيبك عنها هذا المقال، بحسب ما يراه كاتبه، بعد طول تأمّل في شأن هذا الإنسان وخصائصه وأسراره.
* * *
منذ سنوات طويلة، وأنا أتساءل: لماذا يبدو الإنسان متناقضاً ومتفاوتاً إلى درجة كبيرة، في صفاته وأحواله، وفي أقواله وأفعاله، في أكثر الأحيان!
فتراه صغيراً وتراه كبيراً، وتراه ضخماً وتراه حقيراً([2])، وحيناً تراه قوياً وحيناً تراه ضعيفاً، وتراه حيناً شجاعاً وحيناً تراه جباناً، ويبدو مرة عليماً فهيماً، ومرة يبدو جهولاً بهيماً، ويظهر لك تارة لطيفاً وتارة عنيفاً، وساعة ليناً متواضعاً، وساعة "جباراً شقياً"([3])، وتراه حيناً في أحسن حال، فتقول: ما أغناه!، وتراه حيناً في أبأس حال، فتقول: ما أفقره!
ويفرح ويضحك، حتى تقول: إنه لم يعرف معنى الحزن من قبل، ويحزن ويكتئب، حتى تقول: إنه لم يعرف معنى السرور يوماً. وهكذا سائر المعاني المتضادة في نفسه.
أتريدني أيها القارئ الكريم، أن أشرح ما أوجزته لك في تساؤلاتي، وأعتقد أنها تساؤلاتك أيضاً؛ لأنها من طبيعة العقلاء.
لقد شاهدتُ وقرأت وسمعت، من أحوال هذا الإنسان المتضادة المتباينة، شيئاً كثيراً، وكمّاً كبيراً، كما شاهد كثيرون غيري، وقرؤوا وسمعوا ، فلست متفرّداً في هذا.
ومن ذلك: أني تأمّلت حال الوليد الجديد، وهو من الضعف بحيث تستطيع الهرة الكبيرة أن تجرّه إلى مخبئها، لولا عنايةُ الله بحفظه، ورعايةُ الأم وحرصُها.
وأعلم –وتعلم- أين كان هذا الوليد، وكيف كان حاله قبل الولادة، وأكثر من ذلك نعلم أصله ومنشأه، من نطفة، من ماء مهين، من حيوان منويّ، لا يُرى بالعين المجردة، فهل هناك ما هو أضعف منه!
وأكثر مَن يرقب هذا، ويلحظه، أبوه وأمه، ومَن حوله؛ لأنهم شاهدوا جميع مراحله.
ثم يكبر هذا الوليد، ويكبر، وتزداد قوته يوماً بعد يوم، حتى يصبح فتىً شاباً، قد اشتد عوده، وتضخّمت عضلاته، فصار يقول للأرض: (اشتدّي ما حدا قدّي)([4])، حتى إن الشابّ ليرى نفسه –في غالب الأحيان- فوق أبيه، الذي بذره([5])، قوة وعلماً ودقة تفكير، وترى الفتاة نفسها فوق أمّها التي فَقَسَتْها([6])، فهماً وإدراكاً وحسن تدبير.
فتأمّل معي، كم كان صغيراً، وكم أصبح كبيراً، حين تقسم كتلة الشاب البالغ على كتلة النطفة. وكم كان ضعيفاً، وكم أصبح قوياً حين تنسب قوة البالغ –أو البالغة- إلى قوة البويضة الملقّحة.
ويخرج الجنين من بطن أمه لا يعلم شيئاً، أيّ شيء، وإنْ كان يحمل في مورّثاته قابلية التعلّم، ولديه من الأحاسيس الفطرية، ما يضمن له استمرار بقائه، كميله إلى التقام ثدي أمه ليغتذي به، وغمض عينه إذا اتجه إليها ما يؤذيها، وقبض يده على ما يوضع فيها، وغير ذلك.
ثم يتعلّم ويتعلّم، ويتفكّر ويبدع، ويبتكر ويخترع، حتى يحسب أنه لم يكن جاهلاً يوماً، وبعض الناس يتنكّر لمن علّموه وأدّبوه، فلا يرى لهم عليه فضلاً، حتى لو كان أباً أو أماً.
وإذا جالت خواطرنا في أرجاء المعمورة، رجعت إلينا بعجائب من جهل الناس، وعجائب من علمهم، وهم يعيشون في عصر واحد، وبينهم من وسائل التواصل ما بينهم؛ فنجد من عجائب جهلهم أنَّ ناساً يقدّسون البقر، وآخرون يقدّسون الفئران، وآخرون يرون في النظافة الجسدية بعداً عن ربهم، وفي القذارة غاية القرب منه.
ومن عجائب الجهل في بعض البلاد، كمجاهيل أفريقيّا، أنهم لا يعرفون من مظاهر الحضارة شيئاً، لا في مأكل ولا في ملبس ولا في مسكن ولا في طب أو علاج، ولا في غير ذلك، وهم يعيشون كما عاش أجداهم قبل مئات السنين.
ومن عجائب الناس فيما بلغوه من العلم والتقدّم، ما نراه ونعيشه، أو نشاهد ونسمع عنه في الشاشات الصغيرة، فقد بلغ العالمون من الناس من الإبداع والابتكار حداً يفوق الخيال.
انظر ماذا فعلوا على سطح الأرض من ألوان البنيان، ونوادر العمران، سواء القديم منها والحديث، فترى آثار القدامى، فتقول: من المحال أن يكون البشر قد أشادوا هذه المدن وتلك القلاع، وليس لديهم من الوسائل ما لدينا، فلا بد أنّ الجن شاركتهم في ذلك، والحقيقة أنه لا دخل للجنّ بها، وإن كانوا مسخّرين لسليمان عليه السلام، في أمور محدودة.
وترى ناطحات السحاب والأبراج الشامخة، في زماننا، والأنفاق في الجبال الراسية الضخمة، وتسمع عن الأنفاق الطويلة بين الدول أو المدن، في الشرق والغرب، في مياه البحار، فتقول: إنه شبيه بالسحر، والحقّ أنه ليس سحراً، وإنما علم وعمل.
وانظر إلى ما صنع الإنسان -الذي أعمل عقله وجد واجتهد- حين صنع الغوّاصات التي تبلغ أعماق البحار، وصنع الطائرات التي تجوب الأجواء، وصنع الأقمار التي تجوب الفضاء، وتلتقط أدق الصور، وتبث إلى الفضائياتِ وما فيها من العجائب، وصنع المركبات الفضائية التي تجوب في أقطار السماء، وقد حطت على عدد من الكواكب، وهي في طريقها إلى غيرها.
وها هي الكهربائيات والإلكترونيات بين يديك، وترى ما فيها من الأسرار والعجائب، حتى تكاد تظن أنّ عمل الإلكترونيات هو ما يعتقده الناس من فعل السحر أو الجنّ، وليس الأمر كذلك.
هذا الإنسان الذي بلغ ما بلغ من العلم والتطور، يعيش مع ذلك الإنسان الذي لا يكاد يعلم شيئاً، سوى الأكل والشرب والتغوّط والتناسل، كما هو حال سائر الدواب.
فهل تعجّبت مثلي من اجتماع المتناقضات على كوكب واحد، في زمن واحد، في مخلوق واحد، هو الإنسان؟ فما أعجب شأنك، أيها الإنسان!
* * *
ذاك مثال الجهل والعلم، وإليك مثال القوة والضعف، وقد سبق طرف الحديث عنه في مقدمة المقال، ولكن أزيده وضوحاً بما يأتي:
هل عاينت شخصاً في حالتين، في حال السلامة في الجسد والأعضاء والحواس، كيف يرى نفسه من القوة بأنه يستطيع أن يفعل كلَّ ما يريد؛ يبني ويهدم، ويكسر ويجبر، ويصبر ويقهر، ويحتمل الجوع والظمأ، ويجري ويسري، فيقطع البلاد طولاً وعرضاً، ويزرع ويصنع، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع.
هل رأيت مثل هذا الإنسان بهذه الحال، ثم رأيته وقد دخل جسمَهُ العتيدَ جرثومٌ أو فيروس، فأرداه صريع المرض، طريح الفراش، لا حَراك له، يحتاج إلى كل من كان يراه دونه، فيحتاج إلى الطبيب ليخلّصه من الجرثوم الضعيف، أو الخلل في وظائف الأعضاء أو الأعصاب –وليس الطبيب نفسه بمنأىً عن المرض- ويحتاج إلى الممرّض، وإلى الصغير والكبير، ليساندوه ويساعدوه في قضاء حوائجه الضرورية، ويستجدي العطف والحنان، من هذا وذاك.
فأين ضعفه الحاليّ، من قوته الخالية !
ما ذكرته ليس جديداً على القارئ، ولكن أردت أن أتذكّر وأذكّر، لأعتبر ويعتبر غيري.
* * *
وإليك مثالاً آخر من دواخل النفوس البشرية، لترى فيه التناقض والتفاوت والتباين، في نفس الفرد الواحد، في أحوال متعددة له، وفي نفوس أناس مختلفين في البيئة والنشأة، وفي التربية والفكر، وفي الاعتقاد والاتجاه.
ففي شأن الفرد الواحد، نرى أحدهم يعتقد اعتقاداً معيّناً، أو يتمسك بفكرة محددة، فيمتزج في نفسه وروحه، ويجري فيه مجرى الدم، فيتعصّب لمعتقده أو فكرته تعصّباً يسدّ عليه منافذ العقل؛ فلا يرى حقاً إلا ما يراه، ولا خيراً إلا ما يختاره، ولا فهماً إلا ما يفهمه، فينفر ممن يخالفه نفوراً، ويرميهم بكل نقيصة، ولا يعترف لهم بأيّ فضل، ويريد أن يكون جميع الناس على مذهبه وفكره، يتبعونه ولا يخالفونه.
وفي المقابل تجد شخصاً قد أهمل عقله ونفسه، فأصبح إمّعة، لا رأيَ له ولا موقف، يميل مع كل ريح، ويسير وراء كل صائح، قد أجّر دماغه([7]) لغيره، دون أجرة يقبضها، وأجرى نفسه على هواها، لتطير مع الأهواء، ولا تزال نفسه تضعف وتضعف ، حتى كأنه بغير نفس، لا يستطيع دفع رغبة، ولا ردّ شهوة؛ لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً.
فهل رأيت البون الشاسع بين هذا وذاك؟
هذا البون الشاسع بينهما هو من أسرار الخلق في هذا الإنسان.
* * *
وقريب من المثال السابق، مثال شخصين، أو شخص واحد في حالين: شخص يتعاهد نفسه بالتربية والتهذيب والتزكية، فيرتقي بها ويتسامى، ويترفع عن الدنايا، وعن مساوئ الأخلاق، حتى يصبح من الطهر والنقاء كأنه ملاك يمشي على الأرض، وهذا نادر في زماننا. وشخص آخر على الضد من هذا؛ يعطي نفسه حريتها المطلقة، فلا يأمرها بخير، ولا ينهاها عن شر، ولا يزال يتسافل ويتنازل، في أقواله وأفعاله، حتى يصبح من السوء في أخلاقه كأنه شيطان في صورة إنسان، وهذا كثير في عصرنا.
وقل مثل ما سبق، في درجات الشجاعة صعوداً، وفي دركات الجبن هبوطاً.
ومثله في مراتب الحبّ سمواً، وفي مهاوي البغض سقوطاً.
ومثله في الغيريّة ارتفاعاً، وفي الحسد والأنانية انخفاضاً.
ومثله في ألوان الحزن، في أنواع السرور، سلباً وإيجاباً.
فهل رأيت أعجب من هذا المخلوق، الذي يسمى الإنسان؟!
وفي الختام أقول: ليس عبثاً أن يُخلق هذا الإنسان بهذه الصفات المتناقضات، والعجائب والأسرار؛ لأنه مخلوق مكرّم، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء/70]. وهو سيد المخلوقات في هذه الأرض، وكل ما في الأرض وما حولها مسخّر لهذا الإنسان، وهو متميّز بخلقه في أحسن تقويم، وفي القدرة على النطق والتعبير عما في داخله، وفي عواطفه وأحاسيه، وفي قابليته للتعلّم. وأهم من ذلك تميّزه بسرٍّ عجيب، هو سر الإرادة والاختيار.
لماذا هذا كله؟ لأنه خُلق لمَهمَّة عظمى، ووظيفة كبرى، إنها عبادة الخالق، بمعناها الواسع العام، من عمارة الأرض، مادياَ ومعنوياً، وإحقاق الحق، وإقامة العدل، ونشر الفضيلة، ودحر الرذيلة، وليست العبادة بالمعنى الضيق الخاص، من صلاة وصوم ودعاء، إلا جزء قليلاً من العبادة بالمعنى العام، الذي يشمل جميع جوانب الحياة، ويعمّ جميع الناس، على اختلاف أجناسهم وأديانهم وبلادهم.
فليس ما رأيناه من التناقض والتضادّ والتفاوت، في صفاته وأحواله، إلا هو مقصودٌ للخالق العظيم، سبحانه.
وبعد هذا كله: أطمح لأن يكون القارئ الكريم، قد أفاد مما ذكرت، وقرّر أن يتخذ لنفسه طريقاً وسطاً، في خضم هذه المتناقضات. والوسط من كلّ شيء خِياره وأعدله، وليس منتصفَه، كما هو شائع بين الناس، فلا نقول لك: قف في المنتصف بين القوة والضعف، ولا في المنتصف بين العدل والظلم، ولا في المنتصف بين الحق والباطل، كما هو شأن كثير من الناس. وإنما اسعَ دوماً إلى الأفضل والأكمل، واستفد من تناقض الصفات والأحوال، ووظفها في تحقيق أهدافك. فما أعجب شأنك، أيها الإنسان!
هذا ما أردت تقريره بهذا المقال، وأرجو أن أكون قد وُفقت للوصول، ومن الله القبول.
[1] ) الإنسان ذلك المجهول، هو عنوان كتاب قيّم جداً، حريٌّ بكل مثقف أن يقرأه، وهو للطبيب الأمريكي أليكسس كاريل، الحاصل على جائزة نوبل، لأبحاثه الطبية، في عام 1912م، وهو مترجم إلى العربية، ومطبوع عدة طبعات. ومما قال في مقدمته: " لست فيلسوفاً, ولكنني رجل علم فقط ، قضيت الشطر الأكبر من حياتي في المعمل أدرس الكائنات الحية, والشطر الباقي في العالم الفسيح أراقب بني الإنسان, وأحاول أن أفهمهم, ومع ذلك فإنني لا أ دعي أنني أعالج أموراً خارج نطاق حقل الملاحظة العلمية...".
[2] ) الحقير في اللغة: الضئيل، صغير القدّ. وفي العرف تستخدم في مجال ضآلة النفس، وهو استعمال مجازي مقبول، يعبّر عن النفس الضئيلة في قيمِها وأخلاقها.
[3] ) اقتباس من قوله تعالى، في سورة مريم (عليها السلام)، على لسان عيسى (عليه السلام): {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً }.
[4] ) مثل عامّي مشهور، ينطبق على الحال الموصوفة.
[5] ) في العامّيّة نقول: بزره، بالزاي بدل الذال، وهي ليست بعيدة في اللغة.
[6] ) هذا من باب المقاربة لما هو شائع عند العوام، والحقيقة أن بويضة الأم تنقسم انقساماً، ولا تفقس كبيض الدجاج.
([7]) والناس يقولون: أجّر عقله، ولعلّ الصواب هو الدماغ؛ لأنه كتلة مادية معروفة، تُختزن فيه المعلومات. أما العقل فهو قدرة الفهم والعلم، وليس في الجسم عضو مادي، يُسمّى العقل.