الأمل واليأس , المدّ والجزر , الانتعاش والموات, مفردات متناقضة ترددت كثيرا في الآونة الأخيرة لدى وصف أحوال العرب والمسلمين في بلاد الغرب أو في بلادهم , فبينما يتحدث الناس في بلادنا عن الفوضى العامة التي تعم البلاد سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا وفكريا , تجد الجاليات العربية والاسلامية المقيمة في الغرب لاتكاد تصدق هذه النظرة المغرقة في الاحباط والاكتئاب , خاصة وأن هذه الجاليات آخذة بالاتجاه ودون فضل يذكر للقائمين عليها الى نوع ما من تنظيم الصفوف والتصورات والأفكار وصناعة الرأي المتناغم على الأقل , وبينما يؤكد كل الذين زارونا هذا الصيف على حالة جزر مخيفة في موضوع الصحوة الفكرية والانسانية التي شهدتها الأمة باكورة هذا العقد بعد الاجهاضات المتتالية خاصة في مجال التوجهات الفكرية العامة بسبب من غياب القيادات الاجتماعية القادرة على اكتساب ثقة الجماهير العربية في بلادها ,تجد حالة من المدّ وفي كل الاتجاهات أصابت أبناء الجيل الثاني وحتى الثالث في أوربة وذلك على الرغم من الفقر المدقع الذي تعانيه هذه الأجيال في افتقاد الدليل والموجه والقدوة خاصة في بلد مثل اسبانية .
أما عن اليأس والاحباط والاكتئاب فحدث ولاحرج , فلقد أشاع مجموعة من زوار اسبانية هذا العام من بعض الكتاب والمثقفين من منظرين ومفكريين اسلاميين أوغير ملتزميين ومن دعاة ومشايخ تسنموا منابر خطب الجمعة في بعض مساجد مدريد , أشاعوا بين الناس جوا من اليأس المطبق , وكان واحدهم يصعد المنبر فيبكي وهو يتحدث عن الهزيمة والانهيار والبلاء , وجموع الناس واجمة لاتعرف عمّ يتحدث الرجل ! فالجاليات العربية والاسلامية هنا لاتعرف طعم هذه الهزيمة ولا الانهيار ولااالبلاء الذي يتحدث عنه هؤلاء القوم الآتون إلينا من بلادنا البعيدة القريبة , الجالية هنا تعلمت معاني التحدي بصمت , والثبات بهدوء , والصبر والتصدي للمحن بالتعايش اليومي مع الأحداث , في ذات الوقت الذي يجب على كل واحد فيها أن يحيا في مركز الجهات الأربعة .. متمسكا بهويته من جهة, منفتحا على جاليته من جهة أخرى , محاورا المجتمع الاسباني من جهة ثالثة مضطلعا بمسؤولية كونه عربيا أو مسلما من جهة رابعة .
وليس مثل رمضان مسرحاً مذهلا لعرض مثل هذه المشاعر الانسانية التي تفيض بها نفوس أبناء الجالية العربية والاسلامية في مدينة كمدريد , التقيت في صلاة التراويح بسيدتين مغربيتين , وكانتا تتحدثان عن سقوط بغداد بكثير من القهر والألم , وذكرت احداهما أن زوجها اضطر الى نقلها الى المستشفى عقب نوبة عصبية أصابتها عندما رأت ذلك الجندي يغطي وجه صنم صدام بالعلم الأمريكي , وقالت :" الله ياخد صدام وساعته ..حنا مايهمناش صدام , المشكل ديال العراق وأهله , المشكل أنو الأمة كلها أهينت" !
وقالت الأخرى ناداني صاحب الدار التي أعمل فيها فقال لي تعالي انظري ماذا يفعلون ببلادكم , فقالت:" لما جئت كانت الدبابات تمشوا نحو مركز الساحة وطلع الجنود ورموا هداك الشي أرضا , فما حسيت والله الا أني ارتميت أنا حال في حال أرضا ولم أنتبه الا وأنا في المستشفى"!.
واستأنفت السيدتان روايتهما فقالتا والله ياأم عبدو _ يعني أنا _ بقينا ندعو الله عليهم شهراً ونبكي مع عمرو خالد وماكاينش فايدة ..ربي مااستجاب لدعائنا!
سألتهما : بالله عليكما ..ألم يستجب لدعائكما؟؟ فوجمت السيدتان ..ثم تبسمتا, وتركنا الحديث وقد أقيمت الصلاة!!.
رمضاننا في مدريد فرصة لاعادة الحساب مع النفس وتجديد البيعة لهذه الأمة , واعادة صياغة الأفكار ومراجعة الأحداث وردود أفعالنا عليها , قبل صلاة العشاء الناس متجمهرون جماعات جماعات داخل وخارج المراكز الاسلامية يتحدثون في الشأن العراقي والقضية الفلسطينية , والمشادات الكلامية على أشدها بين أنصار حماس وأنصار المنظمة , لاأدري على ماذا يختلف القوم ؟؟ وحماس والمنظمة وكل الفلسطينيين في نفس القارب الصامد بمعجزات متتالية في وجه الرياح العاتيات.
وتتعالى أصوات النساء في سدّة المسجد حتى تصم ّ الآذان عن سماع ارتفاع الأذان نفسه , والموضوع هو قصف سورية من قبل اسرائيل , وهل كان يجب على سورية أن ترد أم أنها فعلت خيرا في احتفاظها للمرة الخمسين بحقها في الرد في الزمان والمكان المناسبين , وتقول فتاة تونسية ثائرة : انشاالله في جهنم ..يعني الرد !!.
الاولاد متجمهرون في كل مكان يناقشون الوضع في العراق ويتحدثون عن المقاومة , ويقول واحدهم : همَّ دول المصريين الذين أرسلوا جيشهم للدفاع عن العراق , فيسكته سوري من حي الميدان قائلا : لك أنت شو بيفهمك نحنا السوريين الذين ضربنا المروحية , فينهره مغربي متشدد في الثامنة من عمره ويقول : أنت وهو موش بتفهموا ..هي القاعدة !, ويسأل ولد آخر : شو هي القاعدة ؟ القاعدة القايمة؟ كل ماانضرب كوكبين بتقولوا القاعدة!.. وينطلق رابع بل هي حماس إشو فهمكوا أنتو بالجهاد والاستشهاد؟!.
رمضان في مدريد.. مساحة من أمل , مساحة من حوار , مساحة من أمن ٍ وَجل ٍ , مساحة للبرهنة على حب أمة ووحدة أمة ووجود وحياة أمة يرغب البعض أن يبرهنوا دون كثير نجاح على نهايتها وسقوطها واختفائها ونزعها الأخير .
رمضاننا في اسبانية مؤتمر سياسي ضخم يمرّ مرور الاهمال التام لحكوماتنا ومسؤولينا وكبرائنا وسياسيينا الذين ضرب بهم الناس عرض الحائط يأسا منهم ومضوا نحو هذه البوتقة السنوية الخاصة في غربتهم ونأيهم والتي تصنع لهم كل عام على الرغم من الغربة والنأي ماتعجز عنه حكوماتهم مجتمعة , رمضان هنا في مدريد وربما في كل أوربة يمر مرّ الازدراء المستحق لمنظماتنا ومؤسساتنا الرسمية والشعبية العربية والاسلامية التي لم تفعل شيئا ولم تقدم شيئا للبلاد ولاللعباد , بل أكثر من ذلك انه مؤتمر جماهيري مثير يتجاوز القيادات والأئمة والدعاة والمثقفين والكبار وحتى الجماعات الدينية والأحزاب السياسية والتنظيمات المهاجرة ليثبت شيئا واحدا فحسب وهو إرادة الحياة لدى أبناء هذه الأمة وإرادة الصمود المدني الحي المثمر الايجابي الذي لايفكر في التدمير ولاالتكفير ليبني , ولايلتفت الى الأموات من الأحياء ليحيا , ولايلوي على الهزائم لينتصر , ولكنه جيل من الشباب يعرب في كل حين عن حبه وأمله وحيويته ورغبته في الحياة كما يعرب عن تمسكه بثوابت الأمة وحقوقها , واستعداده للموت في سبيلها ولكن في المكان المناسب والزمان المناسب .
الغربة تركت للناس فرصة من حرية علمتهم بعض فنون الحياة وان كانت لم تمنحهم كل معاني الكرامة التي مازالوا بها يحلمون , علمتهم التفكير بصوت عال دون هلع من سجن غير إنساني أو تعذيب وحشي أو اختطاف إجرامي وان كانت سلبت منهم الشعور بالأمن .
إن ضمان القدر الأدنى من الحقوق والحريات لايترك مجالاً لغير ارادة الحياة وارادة البناء وارادة العمل أن تثمر وتنمو , وخير شاهد على ذلك هذا الرمضان المدريدي الذي يتحدث لسان حاله عن المدّ وعن الانتعاش وعن الأمل.. وعن الغد الآتي ..نراه قريبا وهو قريب قريب!.