تظل "المجالات الحاضنة" لتجليات المجتمع المدني ولحيويته مرتبطة بالاستراتيجية التقليدية التي تغلب الطبيعة الهوليستيكية (HOLISTE) والماكرو اجتماعية على حمولاتها الاعتراضية: سياسية، نقابية، مهنية. ووفق منظور هذه الاستراتيجيات، نجد أن أهم ما يميز التكوينات التقليدية، هو سيطرة علاقات القرابة، والمحلة، والمذهب، والطائفة، والعشيرة. وهي علاقات ذات طبيعة عضوية تراتبية هرمية، تركز بشكل عام على روابط الدم والانتماء إلى أحضان هذه الروابط. بحيث إن التكوينات الاجتماعية البدوية تظل، كما يرى خلدون حسن النقيب، أكثر تمركزًا حول القبيلة أو العشيرة كأساس للتنظيم، ومن ثم للولاء السياسي. وإذا كان هذا هو منطلق التحديد فيما يتعلق بالبنية التقليدية، فإن التساؤل حول كون مؤسسات هذه البنية برمتها تندرج ضمن المؤسسات التقليدية للمجتمع المدني، ومنها القبيلة، يبقى مطروحًا وبحدة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نجد أن مؤسسات المجتمع المدني، تقليدية أو حديثة، برزت إلى الوجود استجابة لحاجات الأفراد في التنظيم والتعاون لخلق منافع محددة في مجالات معينة، وتعكس من ناحية أخرى تطور حاجات الأفراد وعجز الأشكال الاجتماعية القائمة على تلبيتها بالشكل المطلوب. وهنا تنبثق الأواصر الوطيدة بين تنظيمات المجتمع المدني والفرد كمكوِّن من مكونات المجتمعات الحاضنة له، مع التقيد بشروط ومعايير الاستجابة لتطلعاته، وطموحاته، ورغباته، واحتياجاته التي يجب على هذه التنظيمات أن تحرص أشد الحرص على تلبيتها والاستجابة لها.
أولاً: البنية التقليدية في البلدان العربية: التركيبة والتكوين: يمكن رصد أربعة مستويات لانتساب الأفراد والجماعات عبر التاريخ العربي، (وفق منظور خلدون حسن النقيب):
• الانتساب إلى الأصل القبلي أو العشائري.
• الانتساب إلى الملة (الديانة أو المذهب).
• الانتساب إلى المهنة أو الحرفة.
• الانتساب إلى المحلة أو الجهة.
ولقد شكلت العشائرية والقبيلة، قبل ولادة الدول العربية الحديثة، ولا تزال في عدد من الأقطار العربية، الوحدات الاجتماعية الجوهرية في الوطن العربي. وكان طابع الولاء السياسي لقرون وراثيًا في القبيلة والقرية بتركيز السلطة في شيخ العشيرة أورئيس القبيلة، كما يؤكد ذلك عميد دوايشة. إن الولاءات القبلية، العشائرية، العائلية هي أكثر الولاءات التقليدية رسوخًا وتأثيرًا في مجمل الحياة العربية المعاصرة. ففي اليمن، أضحت القبيلة نظامًا متكاملاً له قوانينه وتقاليده، وله نظام انتخابي ونظام توزيع للأعمال بين فئاته. كما أن له نظامًا تعاونيًا وتحديدًا دقيقًا للحقوق والواجبات، وهو ما اتضح بشكل جلي من خلال الثورة اليمنية إبان الربيع العربي، وتأكد أكثر مع ما تعرفه حاليًا القضية اليمنية من تطورات ستبصم بشكل حاسم مستقبل هذا البلد العربي. وإذا نظرنا إلى التكوينات التقليدية في الدول العربية، فسنجدها تعتمد أساسًا على معايير التضامن العشائري القبلي، وبدرجة أٌقل على التضامن المذهبي (سنة وشيعة) ما عدا البحرين ونسبيًا اليمن. أما السودان، والمغرب، والجزائر، وموريتانيا، فهي دول ذات تكوينات تقليدية تعتمد على تضامن قبلي اثني في الوقت نفسه، بينما ليبيا والصومال ظلتا ترتكزان على التضامن القبلي. فإذا أخذنا المغرب كنموذج للمجتمع الانقسامي مثلاً، نجد أن البنية الاجتماعية ما قبل الرأسمالية للقبيلة، كانت تتكون من وحدات بشرية متداخلة، ومتجانسة، ومتماسكة، يتم الانتقال فيها من الخلية الاجتماعية القاعدية، وهي الأسرة، إلى المجتمع القبلي الموسع، مرورًا بالدوار، ثم الفخذة. وتسهر كل وحدة سوسيو - مجالية (الدوار، الفخدة، القبيلة) على تنظيم إطارها التراتبي، واستغلال وسائل إنتاجها، وتدبير مؤسساتها الداخلية، وتسيير شؤونها الخارجية بواسطة "الجماعة" المنتخبة على مستوى الدوار والفخذة ثم القبيلة. أما المخزن (النظام السياسي السائد) فلا يتدخل إلا في حالة امتناع القبيلة عن أداء الضريبة أو وجود خطر واضح.
ثانيًا: القبيلة كمكوِّن من مكونات البنية التقليدية ومدى اعتبارها من مؤسسات المجتمع المدني، تستبعد الغالبية العظمى من الكتابات أن تكون القبيلة والعشيرة ضمن ما يطلق عليه المجتمع المدني، باعتبار هذا الأخير يعني من بين ما يعنيه مجموع التنظيمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام، والتراضي، والتسامح، والإدارة السلمية للتنوع والخلاف. إن المجتمع المدني بهذه السمات، يوجد من وجهة نظر هذه الكتابات على طرف النقيض من مؤسسة القبيلة. وعلى عكس ذلك، ينطلق أنصار الرأي الذي يرى أن القبيلة أو العشيرة يمكن أن تندرج ضمن مكونات المجتمع المدني، من الجوانب الأخلاقية والسلوكية للمفهوم. فالعبرة من وجهة نظرهم ليست بوجود منظمات، أو مؤسسات، أو هيئات متعددة من ناحية الكم، إذا كانت لا تعبرعن جوهر المجتمع المدني من الناحية الكيفية، أي من ناحية تصرفات الأفراد ومدى تعاملهم والتزامهم بقيم ومبادئ الحوار، والتسامح السلمي، وقبول التعدد والاختلاف، ونبذ التعصب والعنف. هذه الشروط والصفات الأخلاقية هي بوابة الدخول للمجتمع المدني. فتنظيمات المجتمع المدني تعبر عن مرحلة أكثر تقدمًا ورقيًا من التنظيمات الاجتماعية التقليدية، ومنها القبيلة، التي تقوم على الروابط الأولية والطبيعة الموروثة، إلا أن هذه التنظيمات قد تصير هي كذلك جزءًا لا يتجزأ من المجتمع المدني، في حالة اقتناعها بجدوى الالتزام بالمبادئ الأخلاقية والسلوكية السالفة الذكر، وذلك بصرف النظر عن الاختلافات الموجودة بينها على مستوى الشكل. فهذا الأخير يبدو دون أهمية تذكر، مقارنة مع أهمية سلوك الجماعة والمبادئ السامية التي تسير على نهجها. وبالتالي يمكن القول أن القبيلة أو العشيرة وغيرها من المكونات التقليدية قد تصبح من المكونات الرئيسية للمجتمع المدني، إن هي انخرطت وبقوة في منظومة القيم التي يرتكن إليها هذا المجتمع من قبيل التعددية، والاختلاف، ونبذ الكراهية، والعنف، والتعصب. وإن هي حرصت على أن تموقع نفسها كوسيط حيوي بين الدولة والأفراد في حدود ما يسمح به القانون وتتيحه النظم.
ثالثًا: الفرد والتواجدات الممكنة بين القبيلة والمجتمع المدني: رغم كل ما سبق ذكره، يصر كثيرون على وضع التشكيلات التقليدية أو بعض تعبيراتها كالقبيلة ضمن منظمات المجتمع المدني، لأنها توفر، كما يرى جميل هلال، بعض أشكال الحماية للفرد من بطش السلطة ومن تقلبات السوق الرأسمالي وقسوته. وفي هذا السياق وللمزيد من الإضفاء القيمي على البِنى التقليدية، لتصبح جزءًا مهمًا من مؤسسات المجتمع المدني، يمكن طرح السؤال التالي: هل بناء المجتمع المدني يستدعي بالضرورة تفكيكًا للبِنى الاجتماعية التقليدية؟ والجواب الذي يمكن أن نستشفه من خلال سياقات مختلفة، أن هذا التفكيك في حد ذاته يعد أمرًا غير ممكن عمليًا، كما لا يمكن توقعه. فالمطلوب واقعيًا هو التقليل من تأثير هذه التكوينات، وذلك عبر احتوائها والقيام بعملية تحويل ولاءاتها الخاصة إلى الولاء العام (الوطن/الدولة)، أي تنشئة الفرد المواطن على القيم الديمقراطية ليتحول بالضرورة من مواطن بالقوة إلى مواطن بالفعل. إنه العنصر الفاعل عبر مؤسسات منوط بها تأطير الفرد المواطن وتدريبه على معطيات للبنية التقليدية في مرحلة أولى، على أن يكون التشكل مرتبطًا بالصيغ والأنساق المتواجدة والمؤثرة في الاختلاف الكائن، أي السماح لها بالتعبير الحر والطوعي عن خصوصياتها الثقافية، والتمكن بالتالي من السلطة بأوجهها المختلفة، مما سيساعدها على الانفتاح الإيجابي على الدولة، وبالتالي على المجتمع المدني في مرحلة ثانية. فالانفلات من هذه المعادلة يجعل الانتماء إلى ولاءات الطبقة يزكى مطمحًا للأفراد إلى الانتماء إلى القبيلة أو الطائفة للحصول على الامتيازات، مما يزيد من استعمال العنف (حالة لبنان والسودان). ولتفادي كل ذلك، ينبغي تعميق الوعي الاجتماعي لدى الأفراد وضمان انخراطهم في تثبيت المواطنة الحقة، باعتبار ذلك يشكل دعامة وطيدة للتيارات الحديثة وتوسيع قاعدتها من أجل المشاركة والتضامن. إن الفرد في إطار النظام الاجتماعي المغربي مثلاً، لا يكون له وجود بالنظر إلى اعتباره الشخصي، وإنما بصفته منتسبًا لقبيلة أو جماعة موسعة إلى حد ما، حيث إن أواصر التضامن فيما بين الأفراد في إطار هذه الجماعة تبقى هي صاحبة الكلمة الفصل التي تعلو في غالب الأحيان على أي شكل مغاير من الروابط. وتتبرر هذه الروابط من خلال إحالتها على نظام للقرابة واقعي أو وهمي، ثم تبقى تترسخ لتجسد واحدة من جملة المكونات للعلاقات الاجتماعية. أي أن هذه الروابط تؤدي دورًا مهمًا بداخل النظام السياسي الوطني، حيث إن القرابات والمصاهرات فيما بين مختلف الجماعات، والعشائر، والأصول الحضرية المشتركة، دون نسيان الروابط العائلية، كلها تنشئ الترابطات فيها بين الأفراد، كما يرى ريمي لوفو.
صفوة القول تبرز "القبيلة، خاصة في السياق العربي، في إطار العمل التفكيكي المرتبط بها باعتبارها بنية تقليدية، كشكل من أشكال التنظيم الاجتماعي يسعى إلى توطيد أواصر الجماعة، عبر تأمين الحاجيات الأساسية للأفراد المكونين لها وحمايتها بالتالي من الانحرافات الداخلية والتهديدات الخارجية.
التدقيق اللغوي: أنس جودة.