لعل من أهم مزايا التطور التَقاني في هذا العصر ذلك التطور السريع والمُتسارع في وسائل الاتصالات، ما أتاح سرعة انتقال المعلومات، كما أتاح إمكانية التخاطب السريع وإمكانية التواصل بين الأشخاص عبر المدن والدول والقارات؛ بواسطة الشبكات الإلكترونية للاتصالات. وأتاح بالتالي إمكانية التحاور سواء أبالكتابة أم بالحديث المباشر بواسطة "السكايب" أو "الفيس بوك" أو غيرها.

ولاشك في أنه قد أتاح أيضا لكل منا إمكانية التقارب والتواصل وفرص إقامة الصداقات؛ مع العديد من الأشخاص ممن لم تسبق لنا معرفتهم، ومن الذين قد يكون كل منهم في مدن أو في دول أو حتى في قارات أخرى بعيدا كل البعد عنا ...كما فتح لنا المجال للبقاء على اطلاع دائم ومستمر وسريع وحتى فوري؛ على كل ما يخصّ الأشخاص الذين نهتم بهم أو الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقات عائلية أو علاقات الصداقة.

لكن لابد لنا من أن نُشير في هذا السياق إلى أنه ربما كان علينا أن نتوخى الحذر في إقامة مثل تلك الصداقات التي تتم عبر وسائل الاتصالات.. ولا يعني ذلك أن يكون علينا أن نُعْرض عن مثل ذلك التواصل المُحبب، فليس هناك أجمل وأنقى من علاقة الصداقة؛ وإنما أن نأخذ الوقت الكافي وألا نتسرّع في اختيارنا للأصدقاء عبر وسائل الاتصالات.

فقد ثبت مؤخرا أن لمثل تلك الصداقات بعض السلبيات التي بإمكان كل منا أن يتجنبها حرصا على عدم التعرّض للمشكلات. فقد يعمد بعض من يبحثون عن الصداقة لمجرد التسلية والدعابة دون أن تكون لديهم النيّة الجدّية لإقامة علاقة صداقة حقيقية متينة، ومن لا يعلمون القيمة المقدسة للصداقة التي تقوم على الصدق والإخلاص؛ إلى التلاعب بمشاعر الآخرين؛ إما بإيراد بعض المعلومات المغلوطة وإما بإخفاء بعض المعلومات الأساسية، أو بنقل بعض المعلومات الشخصية التي تخصّ الصديق للغير. وهو بالتالي بمثابة الانتهاك لتلك الخصوصية التي قد تربط الصديق بالصديق مع مرور الوقت. وهو ما يؤدي ليس فقط إلى المشكلات وإنما إلى أن يُصدم المرء باختياره للصديق غير المناسب، وإلى أن يُعرض بعد ذلك كليا عن إقامة أيِّ صداقات أخرى على الرغم مما أكدّه الحكماء في كل عصر من أن:

الصداقة أشبه بمصباح وهاج ينير الطريق أمام السائرين في الحياة، وأن الحياة بدون الصداقة أشبه بشجرة بدون ثمار.

تعتبر الصداقة من أنبل العواطف في الوجود، وهي أقوى الروابط في مجال العلاقات الإنسانية، لذا تأتي أهميتها في المرتبة الأولى التي تلي الروابط والعلاقات العائلية.

والصداقة هي الوسيلة الفعّالة لتعزيز التقارب والتفاهم بين الأفراد، وهي ما يجعل المرء يشعر بالسعادة والتفاؤل بتلك المشاركة الوجدانية التي تنشأ بين الأصدقاء.

لكن علينا في الوقت ذاته أن نُدرك أنها قد تكون سريعة الزوال، وأنها بالتالي تتطلب الكثير من الحرص مثلها مثل جميع الأشياء الثمينة القابلة للكسر أو التلف.

والصديق الحقيقي هو الذي يساند صديقه والذي يتعاطف معه والذي يكون ملاذا له في كل ما يتعرض له من مشكلات.

الصديق الحقيقي هو من يُسدي النصيحة لصديقه وهو الذي يُسانده ويُرشده، لذا تُصبح الحياة بالصداقة أكثر بهجة وسعادة.

لكن الصداقة لا يُمكن أن تسمو وتدوم ما لم تترافق مع الصدق والإخلاص؛ لأن الصداقة والإخلاص مترادفان لا يصلح أحدهما دون الآخر.

الصداقة

للكاتب "آرثر بينسون"

يقول مثل فرنسي إن الطريقة الأفضل لجعل المرء محبوبا مُحاطا بالأصدقاء هي أن يجعل نفسه مفيدا للآخرين. ويُعتبر هذا المثل من الأقوال المأثورة التي قد يستخفّ بها من هم في سن الشباب. بينما يشعر الأشخاص الذين أصبحوا في متوسط العمر بمدى أهمية الصداقة، وبالتالي قد يأسفون على الأيام التي أضاعوها في السعي لأمور أخرى معدومة الجدوى.

الحقيقة أنه لا يشعر غالبية البشر ممن ليست لديهم أي طموحات على الإطلاق في بداية حياتهم؛ بالرغبة في أن تكون لهم فائدة للآخرين، وإنما هم يحلمون فقط كالأطفال بأن يكون كل ما في الكون حتى القمر والشمس وحزمة من النجوم تحت تصرفهم، وبأن يصبحوا من الأثرياء لكي يكون لهم تأثيرهم على الآخرين ولكي يكون بإمكانهم إثارة الحماس والإعجاب في نفوس الآخرين... لكن كل تلك الرؤى والأحلام لابدّ أن تزول بالتدريج مع مرور الوقت، ويكون عليهم بذلك أن يَكتفُوا برُكن هادئ وبالقليل فقط من اهتمام الآخرين، ما قد يمنحهم بعض التميّز. وأما بالنسبة للأحلام بحزمة النجوم وبالثروة فسوف ينسون تماما وجودها.

نحن نُخطئ جدا لو اعتقدنا بأن تأثيرنا الكبير على الآخرين يرتبط بما نمتلكه من ثروة ومن نفوذ، فمثل تلك الأمور ليست سوى أوهام قد تجعلنا نأسف عندما ُندرك أن ارتباط الصداقة بالثروة معناه أن تزول الأولى(الصداقة) بزوال الثانية(الثروة)، وأن تلك الصداقة النفعية عبارة عن قشور زائفة برّاقة قد لا تتضمن أي جوهر حقيقي.

كثيرا ما يكون التأثير على الآخرين من قِبل أشخاص لا يسعون إليه، كما قد يكون التأثير الأفضل على الآخرين ممن لا يعرفون حتى أنهم يمتلكون مثل ذلك التأثير على من حولهم، وقد يكون أحيانا من أشخاص لا يسعون إليه، وبذلك فإن الأشخاص البسطاء وغير الأنانيين الذين يتمتعون بكرم الأخلاق هم من يفوزون بجائزة الصداقة التي هي من أفضل المشاعر وأنقاها في العالم، لذا فعلى من يرغب في الصداقة أن يستحقها لا أن ينتزعها من الآخرين.

كان بعض الفلاسفة قد كرّسوا وقتهم للبحث عن الخلفية وعن الأساس لجميع انفعالاتنا، ومما لاشك فيه أن أقوى المشاعر الإنسانية في الحياة هي العلاقة التي تتجلى في محبة الرجل للمرأة ومحبة المرأة للرجل ومحبة الأم لأطفالها، لكن تلك هي بالطبع من الأمور الفطرية. أما علاقة الصداقة فهي ليست مبنية لا على غريزة الحماية التي تربط الأم بطفلها، ولا على الرغبة أو على التطلع إلى أي نوع من المكاسب؛ وإنما على جميع الصفات الحميدة التي تدعم وتزيد من تلك الروابط.

والصديق هو الشخص الذي يحتاج صديقه، والذي يكون صديقه في المقابل بحاجة إليه.

والصداقة تجعل الحياة أكثر بهجة وأكثر كمالا وأكثر جمالا؛ سواء أكان ذلك الصديق بالقرب منا أم بعيدا عنا، لكن من الأفضل بالطبع أن يكون الصديق قريبا منا؛ فهذه هي بالطبع أفضل حالات الصداقة. لكن حتى لو كان الصديق بعيدا عنا فلا بد أن يكون على صلة بنا؛ بحيث يُفكر فينا ويسأل عنا، ويُشاركنا مشكلات حياتنا، ويكون على استعداد دائم لمساعدتنا عند الحاجة.

لكن علينا أن نُدرك مع ذلك أن من الخطأ أن نعتقد بأننا نبحث عن صداقة الشخص لأجل ما لديه من صفات فقط؛ فقد لا ترتبط الصداقة بذلك الأمر، ذلك أنه قد نُعجب بصديقنا لأجل ما يتحلى به من صفات حميدة، لكننا مع ذلك عندما نهتم بشخص ما، وعندما نعتبره صديقا لنا، كثيرا ما نغفل وما نصفح عن هفواته وعيوبه...

قد يحدث في بعض الأحيان أن نعتقد بأننا أصبحنا على علاقة صداقة حميمة مع أحد الأشخاص ثم نكتشف بعد التعامل معه عن قرب بأننا غرباء عنه، وبأنه يختلف عنا في كثير من الأمور، لكن مثل تلك الصداقة قد تستمر مع ذلك لو أننا كنا قد ارتبطنا به عاطفيا.

تنشأ علاقات الصداقة القوية عادة بين الأشخاص الذين لديهم النظرة ذاتُها إلى الحياة، لكن قد تكون هناك أيضا في بعض الأحيان صداقات بين أشخاص يختلفون في أسلوب تفكيرهم وفي وجهات نظرهم في الحياة، وهو الأمر الذي لا بد أن يخلق صعوبة كبيرة في التعامل فيما بينهم؛ لأنه سوف يتطلب من الصديق بذل بعض الجهد لكي ينظر فقط إلى ما لدى صديقه من فضائل، ولكي يُقلّل من أهمية ما لديه من عيوب.

هناك مَثل هندي يقول "عندما تضرب الصاعقة يصبح أسوأ الأشخاص من الأًصدقاء". وهذا يعني أن الخطر المشترك يُقرّب بين الأشخاص حتى لو كانوا من الأشخاص السيئين. لكن الواقع هو أن الشيء الجوهري في الصداقة بالنسبة للكثيرين هو تبادل الثقة بين شخصين، وهو ما يجعلنا لا نصدق أن ذلك الشخص قد يُسيء إلينا، وهذا ما يجعلنا نغفر له حتى لو أساء إلينا، ونُقنع أنفسنا بأنه لن يفعل ذلك من جديد، ونحن نستمتع بذلك الشعور النبيل بالغفران.

وبإمكاننا تفسير تلك الغريزة غير العادية التي قد تجعلنا أحيانا نشعر بالسعادة وبالانجذاب إلى شخص معين بعد مجرد مقابلة؛ على الرغم من أن ذلك الشخص قد لا يتمتع بأي صفات فكرية أو شكلية مميّزة، ويكون ذلك لمجرد ما قد نجد في شخصيته ما يشدّنا إليه وما يُثير اهتمامنا به.. بأنه ذلك الانجذاب الغريزي والدافع النابع من القلب؛ بحيث تكون تلك الرابطة مَبنية على أمر عميق من النوع الروحاني. لكن الخطورة في ذلك أنه قد يجعلنا بالطبع نخطئ أحيانا في اختيارنا للأصدقاء.

نحن بالطبع نختلف فيما بيننا في قدرتنا على التقارب بالصداقة؛ ومع ذلك فإن أكثرنا يميل إلى الحصول على عدد قليل فقط من الأصدقاء، ربما خشية ما قد يُصاب به من خيبة أمل، أو قد يكون ذلك لأننا قد نشعر بما يكمُن في الصداقة من مسؤولية، أو لأننا من النوع الذي يشعر بالحياء.

لكن السبب الأهم هو أن الصداقة تتطلب التقارب في وجهات النظر، ولأنه ليس من السهل على المرء أن يتأقلم مع أفكار جديدة قد تكون مختلفة، ولا أن يُغيّر من نظرته للعديد من الأمور.

هناك بالطبع العديد من أشكال الصداقة؛ منها الصداقة التي تبدأ بما يُدعى بالزمالة أو الصحبة والرفقة، وهي الصداقة التي تنشأ نتيجة الاعتياد والألفة، وبإمكان كل شخص بالطبع أن يحصل بسهولة على مثل هذا النوع من الصداقة.

يقول الفيلسوف "ستيفنسن":

"بإمكان الرجل المتواضع أن يحصل بسهولة على الأصدقاء لأنه بطبيعته يكون من النوع المُتسامح تجاه الآخرين، ولأن لا بدّ للشخص عندما يكون مُتسامحا أن ينظر دوما إلى الجانب الأفضل لدى جميع من حوله. لذا بإمكان مثل تلك الصداقة أن تثير أفضل أنواع الولاء والإخلاص...".

قد تستند بعض الصداقات إلى صلة الدم مثل الصداقة بين الأشقاء والشقيقات، وهذا النوع من الصداقات هو من نوع الصداقات الهادئة والجميلة جدا. وهناك أيضا الصداقة التي قد تنشأ بين شخص مُسن وبين شاب، أو الصداقة التي تنشأ بين أستاذ وطالب، لكن مثل تلك الصداقة تكون غير متعادلة بالطبع.

كما أن هناك في بعض الأحيان صداقة تنشأ بين مريض وطبيب، ومثل تلك الصداقات تُثير أنقى عواطف التفاني والإخلاص.

الصداقة تعني أيضا المسؤولية؛ فعلى الصديق أن يُسدي النصيحة لصديقه في حال ارتكابه الأخطاء. لكن أحد الأمور التي قد تؤدي إلى ضياع معنى الصداقة لدى العديد من الأشخاص؛ أن يتنازل الصديق عن كل مبادئه لصالح صديقه، وأن يتغاضى أو يتغافل عن جميع عيوبه.

التدقيق اللغوي لهذه المقالة: حميد نجاحي

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية