لقد أضحت مشاركة جمعيات المجتمع المدني في عملية التنمية البشرية أمرًا من الأهمية بمكان، نظرًا لما أصبحت تلعبه من أدوار أساسية وحاسمة داخل المجتمع كقوة اقتراحية وكمكون فعال على مستوى تفعيل السياسات التنموية، وتنفيذها، ومتابعتها، وتقييمها، وكذلك نظرًا لقربها من شريحة عريضة من المواطنين وقدرتها على الانخراط الإيجابي في تعبئة الموارد المادية والبشرية وتأهيلها.
بيد أنه، ومن أجل تحقيق هذه المؤسسات لأهدافها التنموية، لا بد لها من قدرات وإمكانيات وافرة تجعلها تتجاوز كل المُعيقات التي تقف في طريق وصولها إلى غايتها المنشودة. وهكذا، تلعب مؤسسات المجتمع المدني أدوارًا طلائعية في عملية النمو والتنمية الاجتماعية الشاملة.
إن الأنظمة الحديثة تركت لجمعيات المجتمع المدني الفرص السانحة للبروز، والصعود، والنمو، باعتبارها أداة للمساهمة في التنمية الاجتماعية، كما أن الجمعيات تشكل مقياسًا للدمقرطة والتنمية البشرية في مجتمع معين، وكلما توفر مجتمع على مؤسسات مدنية قادرة على التحرك والمبادرة، دل ذلك على مستوى التنمية البشرية المستدامة وعلى قدرة البشر على الفعل الإيجابي. والأكثر من ذلك أن هذه الجمعيات أضحت تعبيرًا عن الرأسمال الاجتماعي والإنساني (الرأسمال اللامادي) الذي يعد عند الكثير من الباحثين والمفكرين أهم من الرأسمال المادي.
ومن ثم أصبحت للمؤسسات الجمعوية كتنظيمات تطوعية بالأساس تدخلات جديدة مرتبطة بالتنمية، والتحديث، والعصرنة، والتطوير. وهي المسألة التي حفزت في إطار رهانات وقتنا الحاضر، والقائمة على الثقافة التشاركية، إلى تثمين أدوار ومهام هذه الجمعيات والرفع من قدراتها التمكينية.
ولم تعد التنمية في العصر الراهن وظيفة الدولة وحدها أو المواطن لوحده، فهي عملية متكاملة تقوم الدولة بجانب منها في الدراسة، والتوجيه، والتخطيط، والإنجاز، ويقوم المواطن بالجانب المهم منها وهو تمويل ميزانيات ذلك، وكل من العملين مرتبط بالآخر لا يمكن فصلهما.
في هذا الصدد، يمكن التأكيد على أنه لا تنمية بدون حكامة جيدة، ولا حكامة جيدة بدون مشاركة فعالة. هذه الأخيرة، يجب أن تعكس إرادتها النصوص المرجعية القائمة على الأسس القانونية، والتنظيمية، والاستراتيجية الموجهة لعمل الدولة وهيئاتها والمجتمع المدني ومؤسساته على حد سواء. وكل ذلك ينبغي أن يتم داخل منظومة من القيم الرفيعة التي تسعى الحكامة لترسيخ دعائمها وتوطيد أركانها، من قبيل الفعالية، والكفاية، والمساءلة، والمحاسبة، والرؤية الاستراتيجية وغيرها... لأن الحكامة تشكل في نهاية المطاف الوعاء الذي يشتغل في إطاره المجتمع المدني، من خلال المساهمة الفعالة في تطبيق مختلف مقتضياتها على أرض الواقع ومعيارًا حاسمًا في طريق إشراكه في العملية التنموية برمتها.
إنه بالنظر لكون التنمية غدت مسألة تهم الجميع، وما دام واقع التحديات الراهنة يفرض ضرورة تقاسم المسؤوليات الملقاة على عاتق سائر المتدخلين في الصيرورة التنموية لمواجهة كل أشكال العجز الاجتماعي، نجد أن الجمعيات أضحت تقوم بمجموعة من المبادرات التنموية في مجالات متعددة كالبِنى التحتية، وتقوية القدرات التمكينية، وتوفيرالمشاريع المدرة للدخل، وكذا حماية الأبعاد الإيكولوجية، ليبرز تدخل جمعيات المجتمع المدني في هذا الصدد، كقيمة مضافة تعمل جاهدة على ضمان المشاركة المكثفة والفعالة للساكنة وتعزيز التدبير المتمحور على تحقيق النتائج الملموسة. إن مختلف المبادرات السابقة الذكر مكنت الفاعل الجمعوي من أن يصبح
شريكًا لا محيد عنه لربح رهانات التنمية المستدامة، حيث ما فتئ يساهم وبفعالية في إنجاز العديد من المشاريع ذات البعد الاستراتيجي، وبالتالي انصهاره الإيجابي في بوتقة الحكامة التنموية. لقد أكد العديد من التقارير المتعلقة بالتنمية البشرية على الصعيدين الدولي والوطني أن التنمية الحقيقية لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا بتفعيل أدوار الفاعلين والشركاء المحليين، كل حسب اختصاصه الترابي في إطار تكاملي، حيث إن الجماعات المحلية التي أريدَ لها أن تكون رافعة أساسية للتنمية المحلية لا يمكن أن تجابه جميع التحديات والإكراهات التي تعمق من حدتها جملة من العوامل من قبيل قلة الوسائل المادية والبشرية، علاوة على ثقل المساطر القانونية، بحيث لا يمكن الاعتماد كليًا على المصالح الخارجية، إذ على الرغم من خبرتها العملية والقانونية المتخصصة، فإنها تظل مع ذلك تتخبط في العديد من المشاكل وعلى رأسها تعويض الاختصاصات، وتضارب المسؤوليات، ونقص الموارد البشرية، والعجز في الاعتمادات المالية المخصصة لها.
وكذلك الشأن بالنسبة لجمعيات المجتمع المدني، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحل بشكل قطعي محل الجماعات المكلفة بالتسيير المحلي، لكونها تبقى بالأساس تنظيمات مدنية مبنية على مبدأ التطوع الإرادي، ولا تعكس إلا توجهاتها واختياراتها الخاصة بها، ناهيك عن عدم قدرتها بمفردها على حل الإشكاليات الكبرى للمعضلة الاجتماعية، بيد أن الجمعيات تبقى مع ذلك مكملة للجماعات مع الشركاء الآخرين بما راكمته من تجارب ومكتسبات في تدبير الشأن العام المحلي، وبفعل كفايتها وريادتها في إرساء ثقافة التضامن، والتعاون، والفعل التطوعي، وتعزيز سبل الانخراط الفعال والمساهمة الإيجابية للساكنة في المسارات التنموية، وذلك من منظور ما تتوفر عليه من خبرات تراكمية في مجالات التشخيص وتحديد الحاجيات، وتنفيذ ومواكبة البرامج والمشاريع التنموية، بالإضافة إلى القدرة الاقتراحية النابعة أساسًا من قربها من الساكنة المستهدفة، ليبلور كل ذلك الأدوار الريادية للحكامة المحلية في ترسيخ أسس التنمية في أبعادها الشمولية.
وبشكل عام، فقد تم تبني خيار الحكامة لتنسيق الجهود المبذولة والمبادرات الرامية لتحقيق الأهداف التنموية، وذلك بالنظر للترابطات التي يمكن خلقها بين مختلف مكونات وعناصر الحكامة من قطاع عام، وقطاع خاص، ومجتمع مدني، في إطار من النجاعة، والفعالية، والمصداقية، والمسؤولية، مما سيمكن بالتالي من الدفع الإيجابي بالدينامية المجتمعية في اتجاه الحد من الآثار السلبية للمعضلة الاجتماعية وما قد ينجم عنها من انتكاسات على مستوى العملية التنموية برمتها.
إن ترسيخ مسارات التنمية البشرية المستدامة محليًا يرتكز بالدرجة الأولى على إنجاز، بطريقة تركيبية، مجموعة من العمليات المتداخلة، كمًا وكيفًا، والمتوخية في الأساس العمل على التحسين المتواصل للمعيش اليومي
للساكنة المستقرة في فضاء محدد على الصُّعُد المؤسساتية، والجغرافية، والثقافية، وفقًا لمنهجية محكمة ترتكز على مسلسل تشاركي ودينامي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وفق أبعاد محلية، مع الاعتماد في ذلك على التعبئة المستمرة لمختلف العمليات القطاعية المنسقة وجعلها منطلقًا حقيقيًا لتبلور الأهداف التنموية، التي ينبغي كذلك لتحقيقها ضرورة التأسيس للعناصر الآتية:
- إدماج التجمعات السكانية المحلية في صيرورات تجديد وتلبية الحاجات التنموية الملحة والأساسية.
- تحسين وتنظيم تدخلات مختلف الفعاليات، وعلى رأسها فعاليات المجتمع المدني من أجل الظفر برهانات التنمية الشاملة والمندمجة للمجتمع المحلي.
وبذلك، فالتنمية المحلية أضحت تندرج ضمن منظور حكامتي، يسعى أساسًا إلى توضيح الطبيعة المنهجية التصاعدية للتدبير، والتي تنطلق في ديناميتها من الأسفل إلى الأعلى، والعاملة في جوهرها على تحديد الموارد الذاتية وخصوصًا الإمكانات المتاحة على مستوى مجال محلي معين، وكذا تحديد أدوار الفاعلين المحليين، من حيث الاستفادة، والمساهمة، وآليات إدماجهم في تصور إنجاز مشاريع التنمية المحلية.
على ضوء ما سلف، وكما يؤكد ذلك برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تتجلى أهمية المقاربة التشاركية في ترسيخ أسس الحكامة المحلية، وهي المقاربة التي تتطلب مشاركة كل من الدولة، والهيئات التابعة لها، ومؤسسات المجتمع المدني، ومكونات القطاع الخاص، فمن دون المشاركة من أدنى إلى أعلى، لن تتوفر إطلاقًا شروط التأسيس الفعلي والفعال لهذا النمط الرائد من الحكامة.
وهنا يغدو من الأفيَد الاعتراف بكون الدول التي نجحت في تحقيق سبل التنمية الاقتصادية المحلية، هي تلك الدول التي أضحت تتوفر على نصيب مهم من عناصر القيادة والكفاية في الرفع من القدرات التمكينية لسائر الفاعلين المحليين وجعلهم ينخرطون بسلاسة ومرونة في عمليات إنجاز وتنفيذ المشاريع المشتركة.
وداخل هذا التصور الشمولي والمرتبط بالتشارك والإدماج، يحتاج التنظيم التعاوني بين الفاعلين المحليين في بعض الحالات إلى تعميقٍ، وتنظيمٍ، وتأطيرٍ أكبر، من أجل الرفع المستمر من نجاعة التدبير المحلي وضمان حسن أدائه. إن ضرورة تعميق التفاعلات المتاحة والترابطات الممكنة تفرض نفسها بشكل حاسم، كلما كانت الموارد البشرية والمادية قليلة أو تتسم بخاصية "الندرة"، كما أن هناك عدة عوامل تتحكم في خلق الشراكات، ومنها بروز نمط من التدبير، يتوسل بتكثيف الجهود الجماعية وتعزيز التشارك بين المصالح اللامتمركزة (الإدارة والمؤسسات العمومية اللامتمركزة)، والشركاء النشيطين في الوسط الإنتاجي المحلي، والقطاع الخاص، وجمعيات الساكنة المحلية.
هكذا، نجد أن مؤسسات المجتمع المدني، خاصة الجمعيات، تتبلور كشكل من أشكال بناء وتدبير الحياة الاجتماعية، بتأهيل وتنشئة الأفراد والجماعات المعرضة لكل أشكال الإقصاء l’exclusion، وذلك من خلال العمل على إعادة التأسيس، وتقوية الرابط الاجتماعي le lien social، وإنشاء تفاعلات إيجابية بين مختلف مكونات المجتمع، ليس على أساس العمل الإحساني أو الخيري، ولكن من خلال المساهمة التطوعية الفاعلة، اجتماعيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا، وسياسيًا، عبر الحرص الأكيد والعزم المتين على ترسيخ الأبعاد التنموية المتعددة المستويات والقادرة على بلوغ مدارج التنمية البشرية المستدامة.
وكخلاصة، فإنه مع ازدياد الحاجة إلى تكاثف وتضافر الجهود المختلفة وانخراط جهات إضافية في مهام وبرامج التنمية، أخذ دور المجتمع المدني يتسع ويتنامى، حيث إنه مع تضاعف الحاجيات التنموية للأفراد والجماعات، وبعد أن أصبحت أكثر إلحاحًا في الوقت الحالي، وما يشكله تلبيتها من فرص سانحة لتأمين ركائز الأمن الإنساني وأسس الاستقرار الاجتماعي، فقد أضحى لزومًا توسيع المجال أمام منظمات وجمعيات المجتمع المدني، لتصبح بحق شريكًا فعليًا وفاعلاً في عملية التنمية، عبر الاستفادة المستدامة من مواردها البشرية والمادية وأخذ الدروس والعبر الإيجابية من الخبرات التي راكمتها وما زالت تراكمها.
على أنه من المهم في هذا الإطار، أن نشير إلى ثلاث أفكار أساسية عن المجتمع المدني، تضمنها العديد من التقارير المهتمة بالحكامة التنموية:
الفكرة الأولى: التأكيد على ضرورة التأسيس لمجتمع مدني قوي، دينامي، منظم وفعال، يتوخى تحقيق الأهداف بكفاية وتلبية الحاجيات الملحة للفئات المستهدفة بكل نجاعة. فليس التوفر على مؤشرات كمية مرتفعة بالنسبة للجمعيات هو المعيار الكفيل بإعطاء حكم حاسم على تواجد مجتمع مدني "محوكم".
الفكرة الثانية: التأكيد على قيم المشاركة والتشارك، وبناء علاقة تكامل وتعاون متبادل بين كل أطراف العملية التنموية وفق أبعاد إدماجية، تسهر أساسًا على توفير الظروف المواتية لها وتيسير مسالك الرقي بها.
الفكرة الثالثة: المشاركة الشعبية القاعدية تعني تحريك همم المواطنين وطاقاتهم على الصعيد المحلي، من الأسفل إلى الأعلى، للإسهام الحقيقي في مواجهة مختلف تحديات التنمية البشرية بشكل خاص وشتى إكراهات العصر الراهن بشكل عام.
ورغم كل ذلك، فالدينامية التي تحرك خطاب المجتمع المدني وواقعه، والتي يمكن أن ترفع من جدوائيته وتترك الآثار الإيجابية على صعيد مساهمته في الصيرورة التنموية ما فتئت تصطدم بجملة من العقبات، ومنها قلة الجمعيات التي تهتم بالمسائل التنموية، وتواجد عدد لا بأس به من الجمعيات التنموية التي تعتمد بشكل أساسي على الدعم المطلق للدولة، دون الاكتراث بأهمية الشراكات، بل الأدهى من ذلك تواجد بعض الجمعيات التنموية التي لا تتوانى في استجداء المساعدات الأجنبية، مع ما يشكله ذلك للأسف الشديد من ضرب صارخ في الخصائص الجوهرية للمجتمع المدني في حد ذاته، من مصداقية، ومسؤولية، واستقلالية، وتطوعية، وفعل حر.
التدقيق اللغوي: أنس جودة.