قد يتساءل المرء أحياناً ـ عندما تتحقّق العدالة بأن يتم توقيع العقوبة القانونية على مُرتكبي الجرائم ـ عن موقف القانون من الكثير من الجرائم التي قد ُترتكب في الخفاء.
تلك الجرائم التي قد يرتكبها أشخاص يعتبرهم المجتمع من أكثر الأشخاص طيبة وعطاء ومِصداقية، وبما أن تلك الجرائم تُرتكب في الخفاء فكثيراً ما يؤدي ذلك إلى عدم التوصّل إلى اكتشاف مُرتكبيها، وبالتالي إلى عدم إنزال العقوبة العادلة بهم ... تلك هي الجرائم التي قد تُرتكب من قبل أشخاص بإمكانهم إخفاء خبايا نواياهم تحت ستار من النفور الشديد من كل ما قد يتسبب بإيذاء الآخرين.
تلك هي الجرائم التي قد تُرتكب من قبل أشخاص يملأ قلوبهم الحقد وتملأ نفوسهم الغيرة والحسد، ما يجعلهم على استعداد للإقدام ـ في الخفاء وبكل برود ـ على ارتكاب أفعال مُشينة يتم التخطيط لها سرّاً ويكون من شأنها تحطيم حياة الآخرين. وتكمُن خطورة مثل تلك الجرائم الخفيّة في صعوبة ـ وبإمكاننا أن نقول أيضاً في استحالة ـ اكتشاف فاعليها حتى من قِبل من يتعرض للأذى.
وبإمكاننا أن نورد بعض الأمثلة على ذلك:
ـ إثارة الفتن التي تؤدي إلى المساس بالشرف وإلى التشهير أو إلى تشويه السمعة.
ـ إثارة الفتن التي تؤدي إلى التفريق بين الأزواج.
ـ إثارة الفتن التي تؤدي إلى التفكّك وإلى إثارة العداوات بين أفراد العائلة الواحدة من أشقاء وشقيقات.
ـ إثارة الفتن التي تؤدي إلى الإيقاع بين الأصدقاء أو بين الشركاء في العمل.
ـ إثارة الفتن التي تؤدي إلى خسارة شخص عمله أو إلى اتهامه بعدم النزاهة، إلخ.
ومن المؤسف أن من يرتكب مثل تلك الأفعال التي لايَطالها القانون؛ إما بتلفيق الأكاذيب أو بترويج الشائعات التي تتزايد خطورتها والتي يزداد انتشارها كلما تناقلتها الألسنة؛ هم أحياناً بعض الأصدقاء الزائفين الذين يُلازمون المرء إلا أنهم قد لايتوانون مع ذلك عن طعنه من الخلف وعن التخلّي عنه عندما يُثيرهم شعور الغيرة أو التنافس غير الشريف.
هم من الأشخاص الجبناء الذين يُحاربون المرء في الخفاء والذين يُبدون له عكس ما يُضمرون.
وكما قال الشاعر:
يُعطيك من طرف اللسان حلاوة ** ويروغ منك كما يروغ الثعلب
كما أن هناك بالإضافة إلى تلك الجرائم بعض الأفعال والتصرفات التي بإمكاننا أن نطلق عليها عبارة: الإجرام السلبي
ويقع الإجرام السلبي عندما يتقاعس المرء ـ وهو قادر ـ, عن المُبادرة بتصرف يوجبه الضمير والواجب، وذلك بأن يمنع ارتكاب ما يؤدي إلى التسبب بإيذاء الآخرين مادياً أو معنوياً سواء أكان ذلك التقاعس ناجماً عن جبن أم عن خوف من المسؤولية أم عن إهمال مقصود. ومن الأمثلة على ذلك:
ـ الامتناع عن الإدلاء بشهادة من شأنها إنقاذ شخص بريء من التعرّض لعقوبة قانونية.
ـ الامتناع عن مُبادرة من شأنها إنقاذ شخص من التشهير بسمعته أو من التشكيك بنزاهته.
ـ الامتناع عن منع الاعتداء على شخص.
ـ الامتناع عن إسعاف مُصاب في حادث.
ـ الامتناع عن إنقاذ شخص مُحتجز تحت الأنقاض، أو الامتناع عن المشاركة في إطفاء حريق نشب في منزل مجاور، إلخ.
لكن بإمكاننا مع ذلك أن نعتبر أن ارتكاب مثل تلك الأفعال أقل خطورة بكثير من الأفعال المُشينة التي يتم التخطيط لها في الخفاء والتي من شأنها الإساءة للآخرين وتحطيم حياتهم.
ولابدّ لنا في هذا السياق أن نُشير إلى الدور الذي يلعبه التطور التقني في تسهيل أو بالأحرى في التشجيع على ارتكاب مثل تلك الأفعال المُشينة، ومن ذلك:
ـ البرامج الحديثة المُتطورة للأنظمة الحاسوبية مثل الفوتوشوب وغيرها، وما أصبحت تُتيحه من إمكانية تَلفيق الكثير من الصور غير الحقيقية وبالتالي الكثير من الأكاذيب. والمثال على ذلك:
ـ أجهزة الاتصالات الحديثة المُتطورة وما تُتيحه من إمكانية إرسال الرسائل المُغفلة والصور المُفبركة، وما تُتيحه أيضاً من إمكانية تصوير الأشخاص على حين غِرّة، وغير ذلك مما يُسهّل الإساءة للآخرين والتلاعب بمشاعرهم. قد يقول البعض إن من يُقدم على بعض التصرفات التي تؤدي إلى التسبب بمعاناة الآخرين قد يدّعي عندما تتم مساءلته أنه لم يكن يقصد بها سوى اللهو أو المزاح والفكاهة.
وصحيح أنه قد يكون بإمكان المرء الذي يتعرض للإساءة التحقّق من هويّة المُسيئين ومحاسبتهم ،
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو:
ماهو ثمن وماهو مدى المُعاناة التي سوف تتسبب بها تلك التصرفات والأفعال المُشينة إلى أن يتم كشف الحقيقة؟ لذا فإن ذلك لا يقلل من تأثيرها السلبي المُزعج وحتى من خطورتها.
أما السؤال الأكثر أهمية فهو:
ما دام القانون لا يعاقب على مثل تلك الإساءات فهل يعني هذا بأن على الشخص الذي يتعّرض للإساءة أن يحتمل دوماً النتائج الناجمة عن ذلك؟
أليست هناك طريقة أو إمكانية لمنع مثل تلك الإساءات؟والإجابة الوحيدة بالطبع هي أن من لا يردعه خوفه من عقاب الله تعالى ومن لايردعه ضميره لايمكن أن يكون له أي رادع آخر.
وسوف أورد للقارئ واقعة من صميم الواقع تُبيّن التأثير الخطير لمثل تلك التصرفات المُشينة، وهي قصة فتاة صغيرة السن أو بالأحرى قصة فتاة كانت لا تزال طفلة بريئة طاهرة دفعت حياتها ثمناً لمثل تلك الإساءات؛ لأنها فقدت إمكانية السيطرة على خوفها من فضيحة مُحتملة تم تلفيقها للإساءة إلى سمعتها:
هالة فتاة في الخامسة عشرة أشبه ببرعم ورد كان قد بدأ يتفتح في بيئة عائلية طاهرة نظيفة، ما جعلها منذ نعومة أظفارها تتشرّب كل ما لدى عائلتها من قِيم ومن مبادئ أخلاقية كانت عائلتها تتمسك بها وتحافظ عليها، على الرغم من أن مجتمعنا الحديث (مع كل أسف) قد بدأ يتخلى عنها بالتدريج.
وبذلك كانت هالة قد نشأت بريئة طاهرة صادقة في تعاملها مع كل من حولها، وكان جمالها ورقّتها وأسلوبها اللطيف في التعامل قد جعلها تحوز على محبة وعلى احترام كل من أساتذتها وصديقاتها وكل من يتعرّف عليها.ولكن لم يكن ليخطر ببال أحد ما أثاره ذلك في نفس إحدى الصديقات المُقربات منها من حسد ومن غيرة عمياء، غيرة شيطانية، كما لم يكن ليخطر ببال هالة التي تحب صديقاتها وتثق بهنّ إلى حدّ كبير أنها قد تتعرّض من إحداهن إلى ما يُحطم حياتها وحياة عائلتها.
كانت هالة شأنها شأن الفتيات اللواتي هنّ في سنها تتبادل دوماً الرسائل الإلكترونية مع صديقاتها، رسائل بريئة يغلب عليها طابع الفكاهة والمزاح البريء.
إلى أن حدث ما حدث أثناء عطلة المدارس الصيفية:
كانت هالة قد اسيقظت ذات صباح وهي في قمّة النشاط والتفاؤل، وكعادتها كل صباح كانت قد فتحت حاسوبها الشخصي الصغير (اللابتوب) لكي تستمتع بما ستشاهده من تلك الرسائل الفكاهية ومن المزاح الذي تتبادله مع صديقاتها. ولكن يا لهول ما كان بانتظارها! كانت بانتظارها رسالة تهديد، رسالة مُغفلة التوقيع تتضمن الكلمات التالية:
أنا على علم بعلاقتك بزميلك (س) وسوف أُطلع والديك اليوم على ما جرى بينكما. لدي ما يثبت ذلك بالصور الفوتوغرافية المرفقة. اطّلعي عليها لكي تعلمي بأن نهاية تلك الهالة التي تُحيطين نفسك بها سوف تزول عما قريب وإلى الأبد. ها... ها...ها ... أيتها القديسة الصغيرة..! سوف أقوم بإرسال نسخ عن هذه الصور إلى والديك وإلى إدارة المدرسة وإلى جميع الطالبات، وإلى صديقاتك اللواتي يُحِطْنك بهالة القديسة البريئة الطاهرة...".
كانت تلك الصور إحدى الصور التي يتم تصويرها في المناسبات المدرسية، وكانت بالتحديد قد صُوّرت أثناء حفل نهاية العام، حيث كانت الطالبات والطلاب يتبادلون التهنئة بالنجاح بالعناق.
لكنها كانت على ما يبدو قد عولجت بطريقة شيطانية بحيث بَدت فيها هالة في وضع مُشين يندى له الجبين.
ربما بإمكان كل منا بالطبع أن يتخيّل ماكان عليه وقْع مثل تلك الرسالة ووقع تلك الصور المُفبركة على تلك الفتاة البريئة الطاهرة.
كانت هالة قد جلست في سريرها وهي تشعر بأنها أصيبت بشلل في كامل أعضائها. بدأت تبكي وتبكي... وتبكي بأسى... وهي تتساءل عما بإمكانها أن تفعله؟ وهل سيكون بإمكانها أن تدافع عن نفسها أمام والديها وأمام أساتذتها وصديقاتها و...و...؟؟ وبينما كانت على تلك الحال من الاضطراب الشديد إذ دخلت والدتها الغرفة لكي توقظ ابنتها الغالية، وكانت هالة عندما دنت منها والدتها لكي ُتقبلها قبلة الصباح قد أغلقت على الفور جهاز الحاسوب وهي في غاية الارتباك، ونهضت من سريرها وقد اصطبغ وجهها بحمرة قانية وأخذت ترتعد، ما جعل والدتها عندما شاهدت ما كانت عليه ابنتها من ارتباك ومن شحوب تعتقد أنها ولابدّ تعاني من الحمى.
أحاطتها بذراعيها وطلبت منها البقاء في سريرها ريثما تجلب لها بعض الشراب الساخن، ثم خرجت من الغرفة.
أما هالة فكانت بعد خروج والدتها من الغرفة قد فتحت حاسوبها من جديد لكي تُلغي تلك الرسالة ولكي تُزيل تلك الصور المُشينة. لكنها كانت بكل أسف قد وجدت الرسالة الجديدة التالية:
"أيتها القديسة الكاذبة! لا داعي لإلغاء رسالتي والصور المرفقة بها، لأن لدي المزيد مما بإمكاني أن أُطلع عليه الجميع، كما أن لدي تسجيلات للاتصالات التي تمت بينك وبين الطالب (س)".
وكانت هالة تلك الفتاة البريئة قد سمعت صوتاً لم تكن قد سمعته قطّ يخاطبها بأسوأ الألفاظ. شعرت كأنها قد أصيب بالضربة القاضية.
كانت تلك المكالمة مُفبركة بأسلوب رخيص بذيء جعل هالة تفقد صوابها، وتتساءل:
"ما الذي سأفعله يا إلهي؟ هل سيصدق والداي أنني بريئة مع كل هذه الإثباتات المُلفقة؟ كيف سأواجه أساتذتي؟ كيف سأواجه صديقاتي؟
كيف سيكون بإمكاني أن أثبت العكس؟ إلى من سألجأ؟ لقد انتهت حياتي، انتهى كل شيء.
وكانت ـ في لحظة يتوقف فيها الذهن عن كل محاكمة عقلانية ـ قد أغلقت الحاسوب وأسرعت بفتح النافذة وألقت بنفسها منها.
تلقّت الأرض جسد تلك الفتاة الصغيرة الطاهرة، وامتزجت تربتها بدمائها الطاهرة.
لاحاجة لأن أطيل في سرد التفاصيل التي تلت ذلك الحادث الأليم.
كان والداها اللذان حطمهما الحزن وهما يبحثان عن بعض الذكريات التي تربطهما بابنتهما الراحلة قد اطلعا بعد بضعة أيام على تلك الرسائل المُغفلة.
وبما أنهما كانا على يقين ببراءة وبطهارة ابنتهما فقد طلبا بإلحاح من الجهات الأمنية المختصة إجراء التحقيقات للتأكد من مصدر تلك الرسائل التي أودت بحياة ابنتهما الغالية.
وكانت التحقيقات قد توصلت بالطبع إلى الفاعل أو بالأحرى إلى تلك الفاعلة التي لم تفلت من العقاب. ولكن ومهما كانت شدّة تلك العقوبة فهي لم تكن تعادل بالطبع ولو بأقل قدر المعاناة التي تسببت بها تلك المأساة المؤلمة لتلك الفتاة وعائلتها. هذا ما يجعلنا نتساءل من جديد أيها القارئ العزيز: أليست الجرائم الخَفيّة أكثر خطورة أحياناً من أي جريمة أخرى يعاقب عليها القانون؟
لكن ربما كان علينا أيضاً أن نُشير إلى أن تلك الفتاة البريئة لو لم تكن قد فقدت صوابها، وأنها لو كانت قد بادرت على الفور بإعلام والديها بما تتعرض إليه من تلك الإساءات لكي تستمد منهما النصيحة والعون لكانت نجت.
التدقيق اللغوي: أبو هاشم حميد نجاحي