انهالت عليَّ التهاني بمقدم عيد الفطر المبارك، حتى فكرت في تعيين شخص يتولى استقبالها والرد عليها نيابة عني! وإذا فهمت من الجملة السابقة أن أبا الجعافر صار مغرورا ويدعي "الأهمية"، فإن مخك تخين، مثل مستر بين، ما أقصده هو أنني استقبلت التهاني بالريموت كونترول... من بعيد لبعيد... بريد إلكتروني ورسائل قصيرة عبر الموبايل... ومكالمات هاتفية... وشوية بطاقات بريدية. تخيل أن شخصا يسكن على بعد خمسين مترا مني اكتفى بتهنئتي بالعيد برسالة عبر الجوال، واختفت الأحضان والمصافحات التي كانت تأتي مع الزيارات الشخصية، فحتى قبل سنوات قليلة كانت العادة أن نترك أبواب بيوتنا مفتوحة يوم العيد، ونعطي بذلك كل مهنئ بالعيد تأشيرة مفتوحة ليقتحم البيت دون استئذان فيدخل ويبارك بقدوم العيد، ويتناول الحلوى والعجين المُسَكَّر، ثم الشاي والقهوة... ولو كانت زيارته في موعد وجبة. عليَّ بالطلاق ما تتحرك قبل أن تفطر أو تتغدى عندنا، وتذهب إلى بعض البيوت وتحاول أن تقدم لصغارهم العيدية نقدا فيقول لك طفل تعلم الكلام لتوه: لا عمو... ماما قالت عيب ناخد الفلوس، وقد يكون البابا يوحنا كبير العائلة موجودا أثناء تقديمك العيدية لصغاره فيبادر هو إلى إرسال نظرة بالليزر إلى الولد أو البنت الصغيرة تعني يا ويلكم لو قبلتم العيدية، وبالمقابل فإن صغار أقاربنا من الدرجة الأولى باتوا لحوحين ولجوجين وعيونهم قوية، شنو هذا عمو؟ ما أقبل أقل من 100 ريال، ما عايز فلوس... اشتري لي بلاي ستيشن، يعني فئة ترى في العيدية ممارسة "بالية"، ولا يليق بعيالهم قبولها، وفئة تربطك بها علاقات الدم تجعل العيدية نوعا من الضريبة التصاعدية واجبة السداد، في حين كان أبناء وبنات جيلنا يتوقعون العيدية من كل من يدخل بيوتهم، بل أحيانا كان أشخاص لا نعرفهم يمرون بنا في الشارع ويقدمون لنا العيدية، قرش أو تعريفة وأحيانا قطع حلوى يحملونها في جيوبهم، ولم يكن من سوء الخلق أن يعترض طفل طريق شخص أكبر في السن، ويطلب منه العيدية، أو حتى أن يطرق أبواب البيوت "من طرف" طالبا العيدية، ولم يكن ذلك يضايق أحدا، بل كان الجميع يستعدون لملاحقات الأطفال ويحملون في جيوبهم الفكة التي هي الفراطة التي هي الخردة التي هي الصرف التي هي فئات العملة الصغيرة!
وفي دولة قطر حيث أقيم استن السودانيون تقليدا سخيفا يجارون به عصر التكنولوجيا، ففي اليوم الأول للعيد يذهب قسم منهم إلى مبنى السفارة السودانية لتبادل التهاني، وهؤلاء غالبا محسوبون على الحكومة، أما من هم ضد الحكومة أي المعارضون لها فيلتقون في أحد الأندية أو الفنادق للغاية نفسها، والغرض من ذلك "التخفيف" على بعضهم بعضاً، يعني نتبادل تهاني العيد في مكان عام ولا داعي لأن نتبادل الزيارات في البيوت، وهكذا فإن شخصا مثلي يعارض الحكومة ويعارض المعارضة، ولا يرى في أي منهما خيرا، يبقى مقطوعا يوم العيد لا يدخل بيته إلا القلة النوبية والأقارب من الدرجة الأولى... فتبور الحلوى التي اشتريناها ونضطر إلى أكلها ونسترد الكيلوجرامات التي فقدناها في شهر رمضان خلال ثلاثة أيام ثم نفكر في "الريجيم"!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية