الشماتة بالموت والموتى ليست من شيم أرباب المروءات ولا من أخلاق العقلاء الأسوياء ,فللموت رهبته التي لا تتزعزع في النفوس التي تعي حقيقته وتقدر له قدره,وإذا لم يكن المقام والحال كذلك مقام شماتة أو تشفٍّ فهو بلا ريب مقام اعتبار واتعاظ ,وقد قيل قديما:كفى بالموت واعظا!. تلك توطئة لا مندوحة عنها إن رمنا أن نستشف درسا مفيدا من تلك الجريمة المروعة التي جرت وقائعها فجر الجمعة الماضية التي أسفرت صبيحتها عن مجزرة دامية راح ضحيتها المطربة التونسية ذكرى وزوجها الذي انتحر عقب قتلها وقتل مدير أعماله وزوجه ,وهي الجريمة التي صدمت بهولها الكثيرين ممن اطلعوا على تفصيلاتها الحزينة ودقائقها المخضبة بالدماء والأشلاء . ولست ممن يُولع بتتبع حيثيات الجريمة ومسبّباتها ولا أحسب أن من يقرأ لي من ذلك النوع أيضا , غير أن ما يعنينا فعلا هو استخلاص العبرة النافعة من تلك الحادثة وأما الجري خلف التفاصيل فشغف فضولي كثيرا ما يحول بين صاحبه وبين استكناه دلالات الحدث العميقة التي ينبغي أن تكون موضع النظر والتأمل .لقد ارتبط اسم القتيلة بالطرب والغناء ارتباطا وثيقا ,فهو الذي صنع لها شهرتها في ذلك العالم وأمجادها في تلك الدنيا,ومن الغريب أن يكون الفن الذي صنع حياتها الصاخبة حيث الشهرة والأضواء والمعجبون والمعجبات هو المسؤول الأوحد عن مقتلها ورحيلها عن دنيانا بتلك الطريقة المأساوية,فليت شعري أي سعادة يصنعها العزف والغناء وأي بال يريحه الطرب والمكاء ,وقد كان ما كان من تلك الواقعة المريرة الحزينة.
ولا زال الجميع يذكر أنه عندما حذر المصلحون من أبناء هذا البلد من شرور الحفلات الغنائية وما يترتب عليها من آثار اجتماعية وتربوية مدمرة طفح على السطح أنصارها متهمين مخالفيهم بالظلامية والتخلف نابزين إياهم بألقاب من قبيل( أعداء الفرح) و(أنصار الكآبة) وغير ذلك مما تجود به قرائح القوم من مخترعات السب والسخرية , وحاولوا جاهدين أن يصوروا حياة الطرب والمعازف في صورة الجنّة الهانئة حيث ظلال السرور والفرح الوارفة !والغريب أن يجد هذا الكلام المتهافت من يكرره ويردده بلا وعي , فمنذ متى كانت السعادة أمرا ماديا يمكن أن يستجلب بصوت الطبل والمزمار وغناء القيان والغلمان؟!ولو كانت السعادة كذلك لما وجدت في هذه الدنيا شقيا ولا تعيسا قط,إذ إن تلك الوصفة المزيفة متاحة للجميع ولذا فلن يُغلب أحد على تحصيلها واجتلابها!إن السعادة لم تكن يوما ما تركيبة كيمائية يعد خلطتها السريّة الصيادلة والعطارين لطلابها من المتداوين والمتطببين, ولا ثيابا معروضة في أسواق البزازين يتسربلها من شاء بعد أن ينقد ثمنها بخسا كان أو غاليا,إنها حالة روحية وكيفية نفسانية لا شأن للبدن الطيني بها البتة ,فهي نتاج الإيمان والقناعة حين تغمر القلب روح الطمأنينة وينسكب في حنايا النفس برد اليقين وخشوع السكينة ,فتحلق بصاحبها المحظوظ في سماء السعادة الروحانية مكررا مقولة ذلك الصالح ذي الثوب المرقّع :إننا والله في حال لو علم بها أبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف!.
فأين حال الذاكرين الله كثيرات والذاكرات {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}أهل السماع الإيماني من حال أولئك الذين أفنوا زهرة أعمارهم في الزمر و الدندنة وهم يلهثون خلف سراب السعادة ووهم الطمأنينة فما ظفروا بغير الوساوس والهواجس بفضل السماع الشيطاني؟{وما يستوي الأعمى ولا البصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء والأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور}فهل يعي الناس ذلك الدرس أم ستطويه الأيام والليالي فيما تطوي تحت جنح الغفلة و ستار النسيان ؟!.