كثيرة هي الكلمات الفصيحة التي تتكرر على ألسنة الناس في عبارات مسكوكة محفوظة يجهل أكثرهم حقيقة مغزاها وتاريخ أصلها اللغوي,ولعل ما يدفع الناس إلى التقاعس عن التعرف على هويتها المعجمية عازفين عن سؤال المختصين عنها يكمن في ذلك الرواج الكبير الذي تحظى به بفضل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة مما يجعلها بمنزلة الكلمات المعروفة التي لا تحتاج إلى سؤال أو تنقير,فقد أغنتها شهرتها وذيوعها عن ذلك ,و ربما حدثت بعضهم نفسه أن يسأل عن دلالتها لكنه في اللحظة الأخيرة يحجم عن ذلك خشية أن يظن به الجهل بما هو معلوم للقاصي والداني!. إلا أن رحلة سريعة في البحث عن تاريخ أصلها اللغوي قد تكشف عن معلومات ظريفة ومعان طريفة يقطع المرء أن شيئا منها لم يدر بخلد السواد الأعظم من مدمني استعمالها !ولعل كلمة (السلوان) تصلح أن تعدّ شاهدا معبّراً عن ذلك الوضع,فهي مستعملة بكثرة في مقامات التعزية وإعلانات النعي وصفحات الوفيات – وإيّاك أن تُشدّد الياء!- ,ولئلا نظلم أحدا عند توصيف تعامل المستعملين لهذه الكلمة فإننا لا ننكر أن بعضهم يدرك أن السلوان يجيء بمعنى النسيان , لكنه لن يجد جوابا لو قيل له :إن كان السلوان هو النسيان عينه,فلما بالنا لا نجد أحدا يقول في برقية تعزية (..وأن يلهم أهله الصبر والنسيان)؟ولم تجنّب الناس زحزحة كلمة السلوان من مقامها حتى باتت في موضعها كما الجبل الراسي رسوخا وثباتا؟ والسرّ في ذلك يكمن في أن كلمة النسيان غير ملائمة لمقام فقد الأحبة,فهي مشعرة بقلة المبالاة وعدم الاحتفال بالمنسيّ ,وحينما يدعى لأهل المتوفى بنسيان ميتهم فإن في ذلك ما يخدش شعورهم ويشي بأن المتوفى غير جدير أصلا بأن يظل حاضرا في الذهن خاطرا بالبال بل هو بالطي والنسيان حري ,ولا أظن أحدا يقبل بذلك المعنى لا المُعزّى – بفتح الزاي – ولا المعزي بكسرها!!
إذن فماذا يكون هذا (السلوان)؟إنه ضرب حميد من النسيان لا غني للحياة والأحياء عنه لتستمر عجلة الحياة في سيرها ولا تتشح الدنيا على الدوام بثوب الحداد وسربال السواد,إنه ذلك النسيان الذي يمتص صدمة الفراق ويذيب شيئا فشيئا لوعة الحزن ومرارة المصاب ,ويحفظ في الذاكرة للميت الراحل طيب الذكر وحسن الثناء لكن دون نحيب أو بكاء!إنه باختصار نسيان مهذب لبق تجود به الأيام والليالي المتعاقبة المتتابعة كما قال القائل:
إذا ما رمتَ أن تسلا حبيبا فأكثر دونه عدد الليالي!
والعجيب أن عادة الناس جارية في الشكوى من الأيام والليالي فهم يعلقون عليها ما يلم بهم من تصاريف القدر,فكأنها بصنيعها هذا تكذب شكواهم أو أنها على أسوأ تقدير تظهر في صورة من يجرح ويأسو!.
وحين نتعمق في البحث عن الأصل اللغوي للكلمة سنجد طرائف تكشف لنا عن صور عجيبة من تاريخ العرب البائد في علاج المبتلين بداء العشق بطرق تناسب جاهليتهم الجهلاء وربما اتصلت بالأصل اللغوي لكلمة (السلوان) إن حفظ الرواة ذلك حقا!فهم يزعمون أن(السلوانة) خرزة شفافة يعالج بها العاشق المدنف ,وتوصي الوصفة الطبية(!)بدفنها في التراب حتى تسودّ ,ثم تنشر من قبرها هذا وتسحق ليُسقاها العاشق فيسلو عن حبيبه!وقيل:ليست بخرزة وإنما (السلوان) ماء يُشرب فيسلّي ,وصفة هذا المشروب أن يؤخذ تراب من قبر ميّت فيرش في الماء فإذا سقي به العاشق مات حبّه!ولا ريب أن تلك ضروب من الجهالات والتخاريف ليس لها من الحقيقة نصيب لكن من يدري فربما كانت هي الأصل الذي اشتق منه هذا التعبير الشائع الدارج!.