في هذا العصر وفي تلك الظروف والمتغيِّرات، أصبح حجابُ الأنثى القضية التي تثيرُ جدل المجتمعات العربية والاسلامية وحتى الغربية.. هذا الجدلُ العقيم برأيي لن يقدِّمَ بل سيؤخِّرَ المجتمعات بإثارة القلاقل والخلافات.. ومن المعروف أن أي مجتمعٍ يسوده الاضطرابُ أو الفوضى لن ينصرفَ إلى التفكير بالواقع والحقائق التي هي جوهر الصراع بين المجتمعات..
ومن الغرابة حقاً أن تُهمَلَ مئة وأربع عشر سورة بما تتضمن من أكثر من خمسة آلاف وثمانمئة آية قرآنية ليتمَّ اختيار آيتيْن لمقاضاة ومحاسبة الأنثى دون الذكر على أنها سبب الفساد والانحلال العام..
ونجادل ونتفقَّه ونستفقه عبثاً في قضية الحجاب لأن العلَّةَ ليست الحجاب بل الحاجب والمحجوب.. إن الخطاب الالهي في سورة الأحزاب ـ الآية 59 ـ يختلف شكلاً ومضموناً عنه في سورة النور ـ الآية 31 ـ
فما هو هذا الاختلاف؟!....
في سورة الأحزاب ؛ كان الحجابُ ـ الجلبابُ لمنع أذى المشركين أما في سورة النور فهو ـ الخمار لم يكن
لنفس الغاية بل لمنع الضرر والضرار الناجميْن عن كشف الجيْب ( الرأس والصدر والعنق).
هذا الضرر ـ ضرّ الغير ـ فهو اجتماعيٌّ أخلاقيٌّ أكثر من كونه شخصي أو فردي،لأنه يدمِّرُ مجتمعاً بسبب انصياع النفس الذكورية* للشهوة أو الرغبة المكبوتة والتي حرَّكَها كشفُ الجيْب...
*(والنفس الذكورية ليست بالضرورة أن يكون صاحبها ذكراً أو رجلاً ، إذ هناك السُحاقيات والمعنى واضح...)
وبما أن مجتمعاتنا لا تعرف الحب أو المحبة بل لم تنشأ على ذلك فهي تخلطُ بين الهوى والحب اعتقاداً أن الأول
( الهوى) هو الحب، وشتَّان شتَّان بين المصطلحيْن...
أما عن الضرار ـ مُضارّة النفس ـ فهو أخلاقيٌّ جماليٌّ بحت!...
أخلاقيٌّ؛ وذلك لابعاد النفس عن الآخر الذي فيه تحرَّكتِ الشهوة فأصبحَ حيواناً لا همَّ له إلاَّ تلبية نداء الجسد ـ الغريزة وبأساليبَ ليست شرعية في مُجملِها...
وجماليٌّ؛ للحفاظ على جمالية النفس من نفور وتقزُّزِ هذا وذاك... بمعنى أن العين التي تعتاد رؤية الشيء حتماً
ستبتعد عنه وتشعرُ بالنفور والكراهية فيما بعد...ما يُفقِد قيمة وجمالية هذا الشيء...
مثالٌ بسيطٌ حول المقصود، إن الجواهر واللؤلؤ وبقية الأحجار الكريمة لا توجدُ مكشوفةً للعيان أو هنا وهناك
أو ملقاة علناً في كل مكان لتكون في متناول كل الأيدي، ولأنها كريمةٌ فمكانها إما على الصدور أو الرؤوس أو في القصور، فقيمتها الجمالية لا يقدِّرها إلاَّ من كان يحبُّ الجمال النقي الطبيعي ـ الحقيقةـ
لهذا قد يُنفقُ أموالاً وثروات للحصول عليها..
بينما الأحجار الرجيمة والتي شكلاً تشبه الأولى بينما مضموناً مجرد خواء فهي رجيمةٌ لأنها في متناول الأيدي وفي كل مكان وبجميع الأسعار... مجرد أحجار لكن الفرق واضح بين الكريم والرجيم منها... ويفرض السؤال التالي نفسه/ لماذا يعكف الشباب ( ذكور وإناث) عن الزواج؟..
والجوابُ ليس بسبب الأزمات المالية أو ظروف الحياة أو غلاء المهور أو ... إلخ بل لأن الجميع بات يفضِّلُ الحجر الكريم المحجوب لقيمته الجمالية على الرجيم المكشوف لقيمته اللاجمالية...
إن الحجاب الذي أراده الله تعالى ليس حجاباً مادياً بل معنويٌّ بدليل الآية ـ 30 ـ من سورة النور ذاتها؛
" وقل للمؤمنين يغضُّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنَّ ويحفظن فروجهنَّ .... " والمعنى واضح لا تنظروا إلى ماحرَّم الله واحفظوا عوراتكم...
لكن ما علاقة البصر بالفرج هنا ( أبصارهم ، فروجهم ، أبصارهنَّ ، فروجهنَّ)؟!...
إن النظر إلى المحرَّمات بؤدي بالضرورة إلى ارتكاب المعصية... والنظر هنا بمعناه الباطن دون الظاهر
لأن العين ليست إلاَّ وسيلةً للرؤيا بينما النظر فمركزه القلب ـ الشهوة بدليل أن عدداً كبيراً من الناس يشاهد
ما يشاهده من أجسامٍ تعرَّتْ وعوراتٍ كُشِفَتْ لكنه بقيَ ساكناً دون أن تحرِّكه الشهوة والسبب في سُكناه هذه
أنه غضَّ البصَر بمعنى أغلقَ باب الشهوة وما يهواه القلب .
وبناءً عليه فالهوى ـ الشهوة يؤدي إلى ارتكاب المعصية كالزنا بمعناه الظاهر والباطن قطعاً...
الظاهر وهوالزنا الحقيقي الواقع أما الباطن فهو ما يكون في حالات التخيُّل أو أحلام اليقظة..
وهكذا فالعينُ ( القلبُ ) تزني بناءً على التفسير السابق...
قد يقول البعض؛ إن وسائل الاعلام هي سبب الفساد والانحلال بينما السبب الحقيقي هو النفسُ البشرية
الضعيفة التي تثورُ براكينها لمجرد هبوب الريح..
فالنفسُ الضعيفة العاجزة عن السيطرة على هذه البراكين من الأفضل لها أن تعترفَ بضعفها بل عجزها بدل كيْل الاتهامات أو تكفيرهذه الجهة أو تلك... فقد أصبح العرب والمسلمون أضحوكةً بين الأمم لهذا الذي تدَّعيه بأنه سبب الفساد.. أيُعقَلُ أن تفسدَ أمةٌ مسلمةٌ من جرَّاء مشاهدة جسدٍ عارٍ مثلاً؟.. فلو كانت حقاً مسلمة ما فسدتْ رغم
كل العري .. الخلل في النفوس تلك وعلاجه الحكمة والمنطق (العقل)...
وقد يقول البعضُ الآخر أن الفساد سببه الغرب والحداثة ووو ... إلخ.
ومتى كان الشرقُ كلُّه خيراُ وهل الأصالةُ خالية من الشوائب؟....... كلامٌ غريب من نفوسٍ عاجزة عن تققيم وموازنة الأمور.. إذ ليس الغرب كله شراً كما ليس الشرق كله خيراً والوضع الراهن أكبر دليل...
هي نفوسٌ ضعيفةٌ لأنها قطعاً لم ولن تلتزمَ بقول الله تعالى " وذلك دين القيِّمة" لهذا نراها إما منعزلة ومتزمِّمتة إلى أبعد الحدود وإما مننفلِتة ومتحررة إلى أبعد الحدود أيضاً ، وهذا هو السائد في مجتمعاتنا لهذا حلَّ الفساد بما كسبتْ أيدينا أي بما ارتكبناه من أعمالٍ وسلوكياتٍ نتيجةً لعدم التزامنا بدين الله تعالى ( دين القيِّمة) لا إفراط ولا تفريط.. وإلى كل نفسٍ ضعيفة؛ لو تأمَّلت نملة كيف تحمل قوتها إلى جُحرها وتعاني ماتعانيه لوصلتْ إلى العبرة وعلمتْ بأن النملة لديها عقلها الذي يشغلها عمَّا هو دون ذلك بينما الانسان لا يشغله سوى العبث واللهو والجدل
والفوضى وإلى ضياع!..
وأعودُ إلى الحجاب الوارد في الآيتيْن وهو الخمار والجلباب لأقول بأن الخمار للرجل أيضاً بدليل
" أنه كان يمسحُ على الخف والخمار" أي العمامة ، ومن يتَّبِع سنة رسول الله (ص) وُجِبَ عليه تطبيقها عملاً.
وكفى مهاترات وترَّهات ذكورية فيما يخص الحجاب الأنثوي دون الذكوري، وما نفع الحجاب الظاهر ( الخمارـ العمامة) الذي شرَّعه البشر إن كان الانسان بلا أخلاقٍ وفضائل أي بلا حجابٍ شرَّعه الخالق عزوجل !......
من آمنَ فقد أمنَ ومن لم يؤمن فلن يأمَنْ .. ولا إكراه في الدين أولاً لأن كل راعٍ ( نفسٍ ) مسؤولٌ عن رعيته (أمورها ومصالحها) أمام الله ، وثانياً لأن هذا الاكراه قد ولَّدَ ما يكرهه الله تعالى جملةً وتفصيلاً..
فالأنثى التي أُجْبِرَتْ على ارتداء الحجاب المجتمعاتي ظاهراً حتماً ستكشفُ الحجاب المعنوي باطناً بالتخلّي عن الأخلاقيات في الخفاء أي حينما تُتاحُ لها الفرصة، وما أكبر الفرص وما أكثرها حينما الحجاب المجتمعاتيُّ يحجبُ الحقيقة ـ الدين بل يُشوِّهها.. وما الله يريد هكذا حجاب بل البشر الذين يعتبرون أنفسهم أنهم يمارسون دور الرب فيأمرون ولا يُؤمَرون يُحاسِبون ولا يُحَاسَبون ويرجِمون ولا يُرجَمون ....
إلى كل إنسان (ذكر وأنثى) ألاَّ يشوِّهَ دين الله بحجابٍ بشريٍّ دون حجابٍ شرعيٍّ ، فلا ولن تنفع الحُجُبُ البشرية
لحجب سلوكياتٍ لا أخلاقيةٍ بل شيطانيةٍ...
لستُ ضد الحجاب لكنها مسألة التزامٍ كاملٍ به؛ فإما حجابٌ ( مضموناً وشكلاً) وإما ( شكلاً دون مضمون) أو
( مضموناً دون شكل) وليختَرْ كلٌّ ما يريد ، ليس دورنا أن نحاسب فما الله بغافلٍ عمَّا نعمل وإليه عاقبة الأمور

12/12/2003

نضال نجار

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية