تكلمنا في المقالتين السابقتين عن الفقر والفقراء، وقلنا إن الإسلام قد اهتم بالفقراء، ووضع الخطوات التي تقود إلى حل المشكلة دون استحداث لمشاكل أخرى قد يعاني منها المجتمع، كما تكلمنا عن اثنين من هذه الخطوات، واليوم نتكلم عن بقية هذه الخطوات :
ثالثاً : التحذير من البخل والوعيد عليه :
قال تعالى في سورة محمد ﷺ الآية 38 :
(هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[1].
وفي سورة النساء الآية 37 :
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)[2].
وفي سورة البقرة الآية 254 :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[3].
وفي سورة المنافقون الآية 10 :
(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)[4].
وفي سورة التغابن الآية 16 :
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[5].
وفي سورة الحشر الآية 9 :
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[6].
فقد علم الإسلام أتباعه من المؤمنين أن المال هو مال الله، وأن للفقير حق في هذا المال، فقال تعالى في سورة الإسراء الآية 26 :
(وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ..)[7].
وفي سورة الأنعام الآية 141 :
(وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ..)[8].
كما علم الإسلام أتباعه أن الله تعالى قد استخلف الإنسان في هذا المال لينظر ماذا يفعل به، هل ينفقه في الطاعة؟ هل ينفقه في سبيل الله؟
أم ينفقه في غير ذلك؟ ومن ثم فقد حذر المولى جل وعلا من البخل وتوعد عليه كل بخيل، فقال تعالى في سورة آل عمران الآية 180 :
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[9].
وقال جل شأنه في سورة الحديد الآية 24 :
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[10].
وروى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلا يُنْفِقُ إِلا سَبَغَتْ أَوْ وَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى تُخْفِيَ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إِلا لَزِقَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا فَهُوَ يُوَسِّعُهَا وَلا تَتَّسِعُ)[11].
ويحدثنا المولى جل وعلا في سورة المدثر عن الآخرة وأسباب العذاب في نار جهنم فيقول :
(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ)[12].
فمنع المال عن الفقير والمحتاج هو أمر مستقبح ومذموم شرعاً، حيث سبق وأن قررنا أن المال هو مال الله، وأن الإنسان مستخلف في هذا المال ينفقه حيث أمره صاحبه، فمنع المال عن الفقراء والبخل به هو عصيان لله تعالى قد يصل بصاحبه إلى الشرك إذا اعتقد أن المال الذي تحت يده لا حق لفقير فيه، ولا سلطان لأحد عليه سواه، وأنه بإرادته وحده يمنع وينعم، يمنح ويحرم.
رابعاً : فرض الزكاة وتحديد نصابها ومستحقيها :
لما كان هناك بعض البشر قد وطنوا أنفسهم على البخل والشح، فقد فرض الله تعالى الزكاة فرضاً لتؤخذ من هؤلاء جبراً فتدفع إلى الفقير وفي ذلك تأكيد على حق الفقير في هذا المال الذي في يد الغني، فمن لا يدفع هذا الحق مختاراً إلى أصحابه، سلط الله عليه الحاكم ليقتضيه منه جبراً، ويعيد الحق إلى مستحقه، ثم بين أشخاصاً معينين وعددهم لأنهم هم أحوج الناس إلى العون الدائم، فقال تعالى في سورة التوبة الآية 60 :
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[13].
كما حدد مقدار الزكاة فجعلها عشر أو نصف عشر ما تغله الأرض الزراعية بحسب نوع الري، وفي الأموال الواجب فيها الزكاة جعلها نسبة مئوية تقدر باثنين ونصف بالمائة من إجمالي رأس المال، وفي الأغنام والماشية والإبل عدد من الرؤوس يزيد بزيادة القطيع.
كل هذه الأموال توجه للفقراء لمساعدتهم، ودعمهم، وتوفير مورد لهم يدفع عنهم الحاجة، ويغنيهم عن ذل السؤال.
خامساً : إيجاد مصادر للتمويل وهي :
الصدقة، والزكاة، والكفارات المالية، وبيت مال المسلمين. حيث أوجد الله تعالى عدة مصادر لتمويل الفقير، وتقديم العون له حتى يغنيه عن ذل السؤال، تلك المصادر هي :
الزكاة. 2. الصدقة. الكفارات. 4. الغرامات.
1) الزكاة : فرض الله الزكاة وحدد مقدارها وبين مستحقيها، وقد تعدد أنواع المال الواجب فيه الزكاة :
فهناك زكاة المال، وزكاة عروض التجارة، وزكاة الذهب والفضة، وزكاة الزروع والثمار، وزكاة الأبل، وزكاة الغنم، وزكاة الماشية، وزكاة الركاز والمعادن.
2) الصدقة : وشرع الله تعالى الصدقة وهي غير محددة بزمان ولا مكان، فالغني المؤمن كلما وجد محتاجاً تصدق عليه بما في استطاعته، كما شرع الصدقة في مناسبات هامة يجتمع فيها الناس، كصدقة الفطر، والأضحية، والوليمة، والعقيقة... إلخ المناسبات التي يستحب فيها الذبح وإطعام الفقراء والمحتاجين.
3) الكفارات : أيضاً أمر الله تعالى المسلمين الذين يقترفون ذنباً معيناً بالتكفير عن ذلك الذنب بإخراج قدر معين من المال للفقراء أو إطعامهم، كما في كفارة الظهار وذلك في قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا)[14]،
وفي كفارة اليمين في قوله تعالى : (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ)[15]، وكفارة الفطر وغيرها.
4) الغرامات : وهي عقوبة مالية تفرضها الدولة عند ارتكاب مخالفة معينة.
وجميع هذه الموارد تصب في بيت مال المسلمين، يضاف إليها إيرادات أخرى للدولة من مصادر مختلفة، وبيت مال المسلمين هو الملجأ والملاذ للفقراء والمحتاجين، فيقدم الدعم للفقراء كل بحسب ما يصلحه، فالفلاح صاحب القدرة على الفلاحة يُقْطعهُ أرضاً ويساعده في زراعتها، ومن يتقن صناعة يقدم له من الآلات والخامات ما يعينه على العمل والإنتاج، ومن يمكنه العمل بالتجارة يقدم له المال الذي يعينه على التجارة، وصاحب كل حرفة يدعمه ويموله.. وهكذا حتى يجد الفقراء فرص للعمل تعينهم على متطلبات حياتهم، وتغنيهم عن ذل السؤال.
هذا هو الإسلام وتلك هي شريعة الإسلام التي جاءت لإسعاد البشر، فلا يشقى في ظلها إنسان، ولا يُظلم تحت رايتها أحد، فما أعظمها من شريعة، وما أسعد من يعمل بها ويحيا تحت ظلها، قال تعالى :
(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا..)[16].
[1] - سورة محمد صلى الله عليه وسلم الآية : 38.
[2] - سورة النساء الآية 37.
[3] - سورة البقرة الآية : 254.
[4] - سورة المنافقون الآية : 10.
[5] - سورة التغابن الآية : 16.
[6] - سورة الحشر الآية : 9.
[7] - سورة الإسراء الآية : 26.
[8] - جزء من آية سورة الأنعام رقم : 141.
[9] - سورة آل عمران الآية : 180.
[10] - سورة الحديد الآية : 24.
[11] - رواه البخاري.
[12] - سورة المدثر الآيات : 42، 43، 44.
[13] - سورة التوبة آية : 60.
[14] - جزء من الآية الرابعة من سورة المجادلة.
[15] - جزء من آية سورة المائدة رقم : 89.
[16] - طه 123 : 124.