الدنيا مثيرة براقة وتفتن البشر بزينتها من مال وبنين وجمال وسلطة وشهرة وقوة وبيوت وسيارات وأراضي وغيرها، وشغلت الدنيا بال الكثير ليل نهار وأقلقت الكثير وأدخلتهم في صراعات ونزاعات من أجل الفوز بها.
ولذلك يثور تساؤل هام: هل يمكن لإنسان أن يغلب الدنيا؟
بالطبع الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلوات والسلام والبركات خارج هذا السؤال لأنهم فئة منتقاة من الله سبحانه وتعالى تحظى بعناية خاصة من القادر القدير خالق هذه الدنيا.
واختلف الناس فيما بينهم في الإجابة على هذا السؤال الهام والخطير:
فقال فريق بأن الدنيا قوية تغلب الناس وتستعصي على أن يغلبها أحد من البشر ودفع هذا الفريق بحقيقة مهمة وهي أن الإنسان بفطرته في الحرص على الحياة الدنيا وبشهواته الداخلية التي يصعب عليه أن يتخلص منها جميعا يسعى ويلهث طوال عمره وراء الدنيا ووراء أمانيه الدنيوية التي لا تنتهي ولا تتوقف عند حد وبذلك يموت الإنسان ولم يحقق أماني وبذلك تصبح الدنيا قد هزمته.
ويؤيد هذا الفريق الصراعات والنزاعات اليومية بين الزملاء في العمل وبين الأخوة بعضهم البعض وبين مختلف الأفراد والشركات وغيرهم.
كما يؤيد هذا الفريق حقيقة مهمة هي أن الإنسان العادي يصعب وقد يستحيل عليه أن يتغلب على جميع شهواته من مال وبنين وجمال وشهرة وسلطة وقوة وبالتالي تبقى شهوة ما من شهوات الدنيا تسيطر عليه وتحرك سلوكه وبالتالي تغلبه.
بينما دفع فريق آخر بأن الإنسان بقوة إيمانه بالله سبحانه وتعالى وبحرصه على الحياة الأخروية وبقناعته وزهده في الدنيا وسيطرته على شهواته يمكن أن يغلب هذه الدنيا المبهجة المثيرة المفتنة.
ويؤيد هذا الفريق الآخر سيد التابعين الإمام الحسن البصري الذي قدم نموذجا حياتيا طوال عمره الذي كان أكثر من ثمانين عاما في أنه غلب الدنيا وزهد في المال والمناصب والنساء وابتعد عن كافة الفتن والصراعات واستعصى على الحجاج بن يوسف الثقفي وغيره من الحكام. وعندما سئل الإمام الحسن البصري عن سر زهده في الدنيا قال: علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأن قلبي وعلمت أن عملي لن يشتغل به أحد فاشتغلت به وعلمت أن الله مطلع علي فاستحييت أن يطلع عليّ وأنا على معصية وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للرحيل.
كما يؤيد هذا الفريق الآخر نماذج أخرى من الصالحين ورجال العلم أمثال الإمام زين العابدين، والسيدة نفيسة رضي الله عنها، والشاعر أبو العتاهية، والعالم الخليل بن أحمد الفراهيدي، والفقيه أبو جعفر الترمذي، الزاهد الواعظ حاتم الأصم، والراهبات في الدين المسيحي وغيرهم من الشخصيات التاريخية.
ولكن أنصار الفريق الأول المؤيد لقوة الدنيا يدفعون بأن هؤلاء الشخصيات تمثل استثناءً لا ينفي القاعدة بقوة الدنيا وبأنها تغلب الإنسان وإنما يؤكدها.
وفي محاولة متواضعة للإجابة على السؤال: هل يمكن أن يغلب الإنسان الدنيا؟ يدفع كاتب المقال بأنه يمكن للإنسان أن يغلب الدنيا، فالنماذج الحياتية لشخصيات نراها يوميا أمثال: فلاح أو عامل أو جندي أو طبيب أو مهندس أو مدرسا قانع راض يخرج في الصباح إلى عمله ويعمل بجد واجتهاد ويعود في المساء إلى بيته راضيا يجلس مسرورا مبتهجا ويدخل إلى فراشه مطمئنا هادئا مستغرقا في نومه لا تقلقه الدنيا، فقد غلبت هذه الشخصيات وأمثالها الدنيا.
فمن خلال التخلص من الحرص على متاع الدنيا وعبر الرضا والقناعة والإيمان بأن رزقك لن يأخذه غيرك وأن عملك لن يقوم به غيرك وأن حياتك وموتك بيد العلي القدير فقد غلبت الدنيا.
رحم الله أمي التي تمر ذاكراها الرابعة في هذه الأيام المباركة، فلقد كانت لا تستطيع السير على رجلها في سنواتها الأخيرة ومع ذلك كانت تحرص على الوضوء والصلاة وكانت مبتسمة راضية معتزة بنفسها تمارس حياتها اليومية وتتنظر وفاتها في ذات الوقت لترفع أصبعها بالشهادة أثناء احتضارها وهي تبتسم، ليكون وجهها مشرقا بنور الإيمان والرضا أثناء وبعد وداعها لهذه الدنيا، رحمك الله يا أمي فلقد غلبتي هذه الدنيا حقا.