حدث أكثر من مرة أن لؤي بهدلني لأنني دخلت غرفته دون أن أقرع بابها، مع أنه يعرف أن غرفته هي ملاذي الآمن بعد يوم العمل، لأبتعد عن نقنقة أمه لبعض الوقت، فعند عودتي إلى البيت بعد الظهر أكون في حالة عصبية لا تسمح لي بأكثر من تبادل تحية ماسخة مع أفراد العائلة، والتهام بعض اللقيمات على عجل ثم التوجه إلى غرفة لؤي، وكثيرا ما أجد له العذر في ثورته لأنني أقتحم غرفته أحيانا بلا استئذان، ولكنني، وفي أحيان أكثر، أثور في وجهه: البيت بيتي وأنا حر أرقد وأنوم في أي مكان زي ما أنا عايز!! وما يستفزني في المسألة برمتها هي حكاية "غرفتي"، واستفزني أكثر ذات يوم أن لؤي طرح سؤالا استنكاريا: هل كان أبوك وأمك يدخلان غرفتك دون استئذان؟ دون أن يدري قام المسكين بتقليب المواجع: قال غرفتك قال!! أي غرفة يا ولدي؟ حتى آباؤنا وأمهاتنا لم تكن لهم غرف خاصة كأزواج، الغريب في الأمر أن بيتنا في شمال السودان مثل كل بيوت البلدة كانت به نحو خمس أو ست غرف ولكننا كنا جميعا نتكوم في غرفة واحدة، خاصة في الشتاء، وكانت تتوسط الغرفة في برد الصحراء القارس حفرة بها أعواد خشبية غليظة مشتعلة (مدفأة) ولحسن حظنا لم يكن الخواجات قد اكتشفوا ثاني أوكسيد الكربون، مما يفسر عدم تعرضنا للاختناق من الدخان المتصاعد من الخشب المحترق،... وربما كان هناك ثاني أوكسيد الكربون ولكنه لم يكن ساماً، وربما كان ساما ولكنه لم يكن يقتلنا لوجود مسامات في جدران الغرف تسمح بمرور تمساح! أما في الصيف فقد كانت العائلة بأكملها تقضي النهار في غرفة معينة ثم ننام جميعا في حوش البيت ليلا،... وجعلنا كل ذلك أكثر ارتباطا ببعضنا البعض، وكان نمط الحياة يكرس في وجدان كل منا أنه مكمِّل ومتمِّم للآخرين، وأن حياته الخاصة امتداد لحياة الأسرة الصغيرة والأسرة الممتدة!
وأجلس في "غرفة" لؤي وأتأمل محتوياتها: الأجهزة الإلكترونية التي فيها تفوق قيمتها المبالغ التي أنفقها أهلي على تعليمي من الابتدائية حتى الجامعة (هذه الجملة خادعة فحقيقة الأمر أن أهلي لم يصرفوا علي مليما أحمر لأتعلم، فقد تكفلت بنا الدولة تعليما ومسكنا وطعاما وتذاكر سفر من وإلى قرانا ومدننا، وكان أهلنا يزودوننا ببضع قريشات للكماليات)، ولديه طاولة قراءة رغم أنه يؤدي معظم واجباته المدرسية وهو جالس على سريره أو على الأرض، ولديه أشياء كثيرة ياما بكى كي يقتنيها، ثم صار "يستعر" منها على أساس أنه صار "رجلا" ولا يليق به أن يلعب بأشياء اشتراها عندما كان "صغيرا"!! ولا مانع لدي من أن أشتري له أشياء جديدة تليق بسنه، ولكن من أين أشتري له "إدراك" أن غرفته ينبغي أن تكون غرفتنا جميعا!! مثل النزعات الفردية التي تبدر من لؤي ومن هم في سنه، هي ما خرجنا به من العولمة و"الاغتراب" بمعنى التأثر بالغرب، حيث يحرص كل واحد على ما يسميه الـ"سبيس" أي الحيز الخاص، وهي نزعة تنتقل بالعدوى فلأن الطفل يعرف أن زميله فلان يملك غرفة خاصة فلابد من يجاريه ثم تصبح المجاراة في امتلاك التلفزيون الخاص وأجهزة ألعاب الفيديو وتصبح المسألة مباراة في التباهي!!