ما الذي يجري في بيوتنا حين يرجع أبناؤنا التلاميذ من مدارسهم مرهقين منهكين من عناء نهار تعليمي متطاول؟ لقد تحول البيت إلى مدرسة بكل ما يعنيه الوصف من إرهاق للأعصاب وزحمة للفكر والبدن,ونتساءل بعد هذا :ترى ما الذي يصنعه أبناؤنا في المدرسة إذا كنا مضطرين إلى تدريسهم المنهج المدرسي من جديد والاستعانة بالمدرسين الخصوصيين لتدريسهم ما لا قبل للوالدين بتدريسه ؟كنت أظن بادئ الأمر أن المشكلة تتعلق بالجينات والخصائص الوراثية والحمض النووي ,وإذا بي أكتشف أن القضية- كما يقول الفقهاء- مما تعمّ به البلوى ,لأنك لا تكاد تجد بيتا لا يجأر إلى الله بتلك الشكوى المؤرقة بما فيها بيوت المدرسين أنفسهم!. إن حجم المشكلة وتفاقم آثارها يستدعيان من أهل الاختصاص المخلصين وقفة متجردة متأنية لا سيما أن الأمر وثيق الصلة بالثروة القومية للأمة أعني مستقبل ناشئتها و شبابها ,ومن ثم فإن المصيبة الحقيقية تتمثل في التقليل من شأن المأساة بدعوى أن السياسة التعليمية التربوية ناجحة وما يشاع عنها بضدّ ذلك ليس سوى مبالغات مغرقة في التشاؤم والسوداوية ,ولا ريب في أنّ أصحاب هذا المنطقي التطميني الزائف هم المسؤولون عن التردي الحاصل في العملية التربوية ومستويات مخرجاتها.لقد تحوّلت المراحل الدراسية إلى ما يشبه مصنع التعليب حيث تغسل الخضار في مرحلة البدء ثم تجفف في مرحلة أخرى ,لتنتقل إلى مرحلة إضافة المواد الحافظة وانتهاء بالتعبئة و التعليب ولصق تاريخ الصلاحية !لكن حين تصل (المعلبات) إلى المرحلة الجامعية فإنّ اختبار القدرات يثبت أن القسم الأكبر منها قد انتهت صلاحيته,فالطالب يدرس الانجليزية لثمانية أعوام على الأقل لنكتشف بعدها أنه لا يحسن نسق جملتين متتابعتين بطريقة سليمة ,وفي العربية يعاني الأساتذة الجامعيون من معضلة فك الاحتراب النحوي المحتدم بين عائلتي (كان) وأخواتها من جهة ,و(إن) وأخواتها من جهة أخرى,مما يغدو معه أمر إصلاح مشكلة ثأر بين عائلتين في الصعيد مسألة في غاية السهولة واليسر إذا ما قورن به!وأما العلوم البحتة فإن نظرة سريعة لأعداد الطلاب المتسربين من كليات العلوم والهندسة كفيلة بمعرفة حالها في المدارس الحكومية.
في أيامنا الخوالي كان المعلم معلّما بكل ما لهذه الكلمة من دلالة شريفة وقيمة رفيعة, كان شمعة تحترق بصمت لتضيء للآخرين, كنا نرى على محياه الصارم أمارات الحزن والقهر حينما يخفق في إيصال المعلومة إلينا ,وحين يوفّق لذلك في المحاولة الخامسة(!)كان ذلك المحيّا يتهلل بالبشر والطمأنينة,لم تكن يومها الفصول مكيفة وإنما كانت تضج بأنين مراوحها المتآكلة وأما اللوح الكتابي فقد كان أسود حالكا وأصابع الطباشير توقع عليه بيد العازف الماهر لحنا يذكرنا بصرير الباب العتيق,وأما النصاب التدريسي فعبءٌ مهول (24 حصة في الأسبوع),وأدركنا الآن لم كان الشيب يغزو رؤوس معلمينا سريعا ليشتعل اشتعال النار في الهشيم,وعرفنا أيضا سر بيت شوقي:
قم للمعلم وفّه التبجيلا * كاد المعلم أن يكون رسولا
وأما اليوم فقد أضحى التدريس مهنة من لا مهنة له ,ومع توفر كل وسائل الراحة والتعليم في الفصل الدراسي إلا أن العطاء التربوي يتراجع بصورة مخيفة مفزعة مع غياب الحوافز التقديرية المميزة بين المعلم الحقيقي والمعلم المزيف الذي لا يشغل باله غير استلام المرتب نهاية الشهر ,وأما التعليم والطلاب فتلك مشكلة أولياء الأمور التي عليهم أن يتدبروا حلها ,ولسان حاله ينشد:
إذا متّ ظمآنا * فلا نزل القطر!
أحسب أن هذا الكلام سيغضب كثيرين! لكن ما ذنبي إن كانت الحقائق العارية كريهة مزعجة؟!