يُوصف الإنجليز عادة بالبرود وربما كان ذلك بسب مناخ بلادهم البارد الذي صبغ طباعهم وأمزجتهم بتلك الصبغة التي عُرفوا بها دون سائر شعوب المعمورة,فالجاحظ يتحدث في كتابه النفيس (الحيوان) عن أثر البقاع والأصقاع في تشكيل بنيتي سكّانها البدنية والعقلية,فهو يذهب إلى أن من أقام بالموصل عاما حمد أثر ذلك في قوة بدنه وصلابة بأسه,ومن سكن الأهواز نقص عقله(؟!),وأما من حظي بسكنى بلاد التبت فإن الابتسامة تعلو محيّاه دائما,ويضيف الجاحظ أن ذلك ملحوظ حتى في وجوه دوابّهم وبهائمهم التي تبدو باسمة ضاحكة!! لنعد إلى الإنجليز لنتعرف على أثر البرود في صياغة مواقفهم الانفعالية المؤيدة لما يؤمنون به من آراء وما ينتحلونه من مواقف,فهم حين يرومون تأكيد وقوع حدث ما وإقناع المخاطب بصحة دعواهم يقولون:إن هذا الأمر واقع لا محالة بنسبة 110%! فإذا ما انتقلت إلى بلاد العرب الحارة فمن المتوقع بحسب نظرية (النفسية- المناخية ) – وهي من بنات أفكاري,فلا تذهب كثيرا في تأييدها! – أن ترتفع درجة التأييد الانفعالي مع ارتفاع درجة الحرارة,ولذا فإنك لن تجد عربيا يلجأ إلى تأكيد وقوع أمر ما مستخدما نسبة 110 % ,إنه في أقل الأحوال سيكتفي بـ 200 %,ومنهم من سيرفعها بلا تردد إلى 2000%!!فما السرّ في ذلك التفاوت الكبير بين النسبتين العربية و الانجليزية ؟ وبصياغة أخرى للسؤال:لم يلجأ العربي عادة إلى اتخاذ موقف مبالغ فيه في تأييد موقف ما قابل للنقاش وعرضة من الناحية العقلية للأخذ والردّ؟.
هناك عدد من التفسيرات التي قد تنجح في تعليل هذا الموقف الانفعالي للإنسان العربي,لعلّ من أبرزها:اعتماد الإقناع العقلي عندنا على الأثر السمعي الذي تحدثه المبالغة والتضخيم في هذا الباب, حيث تصنّف ثقافة الإقناع بأنها ثقافة قولية بيانية,فالكلام يمثل الوسيلة الفاعلة الكبرى لإقناع المخاطب ,وليس ذلك بقاصر على الثقافة الشفوية كما يُظن بل إن الثقافة المكتوبة تعتمد في كثير من أدواتها الإقناعية على جودة سبك الخطاب وتوظيف البراعة اللغوية في سبيل خطف لب القارئ ليجد نفسه بفضل سحر البيان وقد انحاز إلى صف الكاتب دون أن يكلّف نفسه عناء فحص الأسس العقلية التي أقام عليها مقالته ورفد بها وجهة نظره تلك .ومما يكشف عن أثر تجويد القول في صنع وتأسيس القناعات الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبا المتقاضين إليه من أصحاب الخصومات :" إنما أنا بشر ,وإنكم تختصمون إلي فلعلّ بعضكم أن يكون (أبلغ) بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع,فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعةٌ من النار ,فليأخذها أو ليتركها !." فالبلاغة كثيرا ما تنجح في تغيير الحقائق وتزييف الوقائع ,وكم حال شؤم العي والحصر بين صاحب الحق والفوز بحقه السليب.
فإن كنت في ريب من ذلك فما عليك إلا أن تستخدم صيغة التأكيد الانجليزية110% في موقف يتردد فيه صاحبك في قبول وجهة نظرك ,وحينئذ ستكتشف أن تلك الصيغة لم تنجح في إزالة تردده بل إنها على النقيض قد عملت على مضاعفة ما في قلبه من ريبة وتوجس,وهذا ما لن تجده بالطبع في حال استعمالك للصيغة العربية المئوية أو الألفية!.
وللحديث صلة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية