لطالما كانت المرأة ضحية التفسيرات الدينية المبنية على قاعدة قيمية ثقافية اساسها منطق ومفاهيم القبيلة والعشيرة بإعتبارها الاشكال الاولية للتنظيم الاجتماعي الضابط، والقوة والضعف الذي اساسه بدائية الانسان والتي اسست على قاعدة شريعة الغاب، حيث البقاء والسلطة والسيادة للاقوى، وفيه يتم اخضاع المرأة كونها (مخلوق ضعيف) لمنظومة متشابكة تخدم وتكرس مصالح هذا (الاقوى).
وهكذا بنيت ثقافة الرجل باعتباره الاقوى على قاعدة شريعة الغاب.
والحديث عن المرأة في العراق اليوم يقتضي تشخيص ان غياب الدور المؤثر للأحزاب والحركات السياسية والفكرية ومؤسسات المجتمع المدني ونتيجة لممارسات النظام السابق، سبب كبير بل رئيسي في حالة التأزم الكبيرة التي هي عليها الآن. فلا غرابة ان يكون المشهد العراقي بهذه الصورة.فإعتماد سياسة الحزب الواحد والقائد الاوحد وإقصاء الاخر من الفكر المغاير وتهميش وإلغاء دور مؤسسات المجتمع المدني في ذلك العهد، غيب دور هذه المؤسسات والتي من المفترض ان تكون بديلة عن تنظيمات القبيلة والعشيرة وتفرعاتهما من جهة وكمصادر وعي ومبعث تطور في غالب الاحيان. ودفع بالانسان البسيط وكعادة المجتمعات البشرية في عهود الظلم والجور، كما في أوان الازمات والكوارث الطبيعية حيث اللجوء الى القوى الغيبية والمبالغة في الالتصاق بها، اكثر من التصاقه بالقيم التي تنتمي الى الاديان السماوية والمعتقدات الدينية الاكثر عقلانية في عصورنا الحديثة.
وكذا فإن غياب القانون ودوره في المجتمع كأحد وسائل الضبط الاجتماعي فيه يدفع بالافراد الى اللجوء الى التجمعات البدائية، والقائمة على اساس العصبية وصلة الدم، واهم مظاهرها الآن العشيرة وهي التنظيم الاجتماعي الفطري والذي يلعب دورا كبيرا في المجتمعات البدائية و وشبه البدائية والرعوية والبدوية المتنقلة والقروية المستقرة.
القبيلة او العشيرة (تنظيم اصغر ومتفرع عن القبيلة) كتنظيم عصبي تؤدي دورها الرئيسي في توفير الامن والامان بالدرجة الاولى لافرادها قبل ان تسند قوتهم الاقتصادية بحماية مصالحهم او تحقق لهم غنائم ومكاسب أخرى عن طريق الغزو.
ونتيجة لهذه الامتيازات التي تحققها العشيرة اصبحت مصدر فخر وقوة لابنائها، فتجدهم يفاخرون ويجاهرون بالانتساب لها ينصرون بعضهم بعضا (حقا او باطلا)، وتوثق ذلك في الموروث العربي مثلا (انصر اخاك ظالما او مظلوما) ؟!! حتى جاء الاسلام ليحاول تعديل هذا المفهوم الى "أنصر اخاك بأن ترشده الى الصواب"، لا ان تعينه على الباطل، ولكن ما أبعد مفاهيم العشيرة وعصبيتها عن ذلك.
وحاول الاسلام توجيه مفهوم العصبية الى حفظ النسب حيث تكون الوظيفة الرئيسية للقبيلة لا ابعد من ذلك. كما حاول ان يبطلها كمصدر للمفاخرة وبز الاخر حيث قال "لا فرق بين عربي واعجمي الا بالتقوى". (1) كما ورد في قوله تعالى "يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم".(2)
وتضخم مفهوم القبيلة لدى البعض ليتحول الى مفهوم القومية كقبيلة اكبر، تلغي الاقليات او القوميات الاصغر التي تعيش في كنفها عادة.
اصبح من لا عشيرة له مستضعف مضطهد. وهذا هو منطق القوة الذي يحترم الاقوى ويستهين بالضعيف ويحط من قدره انها شريعة بدائية.
على هذا الدأب ايضا استضعفت المرأة لأنها غير قادرة على القتال كالرجل في بيئات التصارع هذه فتأسس لها وضدها تراث قائم على استضعاف مكانتها وتحديد ادوارها ووظائفها لتكون كالسلعة تباع وتشترى وتستخدم لاشباع الغريزة والشهوة وترمى وقت انتفاء حاجتها، وتقتل وقتما يشك بأنها وقعت فريسة او ضحية للغازي والطامع او متى ما رفعت الصوت رافضة استعبادها او (تسليعها).
لقد جرت (عرفنة – نسبة الى العرف- وشرعنة) ادوار المرأة ووظائفها في المجتمع تلازميا بين العرف العشائري والدين، اي دين كان.
حيث اكتسبت الاعراف شرعيات كبيرة بل قدسية حينما بنت معظم الاديان سننها وشرائعها على ركام الكثير من القواعد العرفية، او فسرت نصوصها الدينية بهذه الكيفية اي وفقا لترسبات ومفاهيم قبلية بل عززت الكثير منها مثلما حاولت تعديل البعض الآخر.
واذا كانت هذه صورة العشيرة وهذه وظائفها وادوارها وموقف الدين منها فلماذا تستمر في مجتمع ما لا يحتاجها؟!
ومع شذوذ العديد من القواعد العرفية العشائرية في العراق وبعدها عن الشريعة الاسلامية الا اننا نلاحظ توافقا بدرجة كبيرة بين المؤسسة الدينية والمؤسسة العشائرية. ولكن لا سر في هذا التوافق، فقد بينا بعض مرتكزات واسس هذا، ومنه ان الجهل والفقر يخدمان هاتين المؤسستين بدرجة كبيرة وذلك بإن يدفعا بالعامة والغوغاء وفاقدي الأمان بالارتماء الاعمى في احضانهما دونما استفهام عن الكثير من غوامض الاسئلة وقبح بعض الممارسات لديهما، حيث تشبع بعض الغرائز والرغبات الآنية والبدائية لكن تكاليفها باهضة.
بزوال الديكتاتورية والطاغوت وارتفاع درجة الوعي بصورة عامة من تهيئة فرص التعليم والاطلاع على الثقافات الاخرى وبروز دور المؤسسات العلمية والفكرية والاجتماعية والسياسية، فهل تبقى حاجة لان نفوض كل امورنا الى المؤسسة الدينية؟
بل هل تبقى التبعية والطاعة العمياء الى المؤسسة الدينية وتدخلاتها والمبنية على الكيفية التي فسرت وطبقت بها النصوص الدينية؟
وإذا استثنينا الحاجة الى الامن في ظل غياب دور القانون (الشرطة) او ضعفه فان الحاجة الى دور العشيرة لا بد ان يتقلص الى درجة مثالية تماما. يجب ان لا يغيب عن بالنا كيف ان الحكومات الأستبدادية استخدمت هذه المؤسسات كوسيلة ادارية لضبط شعوبها وتحميل قيادات هذه التنظيمات مسؤولية ضبط افرادها.
التنظيمات العشائرية تطورت في العراق وفق متطلبات عصرها فإعتمدت لها ما يمكن ان نسميه قوانين داخلية او دساتير تضبط علاقات افرادها بعضهم مع بعض، وعلاقاتها بنظيرتها من العشائر الاخرى. فلكل عشيرة ما يسمى ب"السانية" (3) وهي: مجموعة من القوانين العرفية تكتب بلهجة محلية عادة وتبنى على ارث من الضوابط طويلة الامد متعارف عليه لدى ابنائها ويتم تحديث ما يستوجب منه مثل ديات القتل أو الزنى او غيرها وفق تبدل العملة وقيمتها وتطور السلاح وغير ذلك. كما ان لكل عشيرة راية او علم خاص بها. ومعظم اعلام العشائر العراقية متشابة حيث تتخذ الشعار الاسلامي (هلال ونجمة) ولكن تختلف بالوانها. (4)
ومنذ إقامة الدولة العراقية الحديثة عام 1921، جرت محاولات وبرامج عديدة لأدماج العشائر في المجتمع العراقي او ترقية قيمها غير الملائمة لتتناسب وروح وقيم المدنية. وقد اتخذ ذلك وجهين، احدهما قسري وآخر طوعي اكثر حضارية.
تمثل الاول في استمرار مسلسل اخضاع العشائر الى السلطة المركزية سواء في بغداد العاصمة او في المراكز الحضرية وتجنيدهم في الخدمة العسكرية محاولة لتطويعهم. ومحاولات أخرى تجسدت في حضر استخدام الالقاب (اسم العائلة والذي يشير عادة الى العشيرة). (5)
كما ان هناك قانون غريب صدر في العهد الملكي ابان فترة رئاسة العميد ياسين الهاشمي للوزارة تحديدا هذا القانون سمي ب"قانون دعاوي العشائر لعام 1924 الذي حدد وعزز الدور القانوني للشيوخ وللاجراءات العشائرية المألوفة". (6)
حيث وضع جزاءات وضوابط مستندة الى القيم والسنن العشائرية العراقية معظمها بعيدة عن القانون الوضعي العراقي الذي طبق في المدن آنذاك، مما كرس قيم العشائر وأحدث تقاطعا في برامج ادماج العشائر في الدولة. وقد كان هذا القانون مقابلا لقانون العقوبات البغدادي الذي طبق في الحواضر (المدن) العراقية.
اما الوجه الآخر لبرامج الادماج هذه فقد تمثل في توفير فرص التوطين والاستقرار للمترحلين منهم وحل منازعاتهم على الاراضي وتوفير فرص التعليم لهم من خلال انشاء مدارس في القرى والارياف كما جرت محاولات اشراكهم في السلطة وان كان اغلب اغراض هذه الاخيرة هو ايجاد فرص الدعم الشعبي لبعض الساسة العراقيين آنذاك لغرض استمرارهم في السلطة او بعض امتيازات الشراكة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ان معظم هذه المحاولات كانت خالية من البرامج التي تستهدف المرأة كعنصر هام في المجتمع او ضحية كبيرة تستحق النجدة ومد يد العون الا ما يجدر الحديث عنه هنا كسابقة كبيرة في المنطقة ألا وهو قانون الأحوال الشخصية، والذي سن في فترة حكم الزعيم عبد الكريم قاسم (1958- 1963) والذي جاء القانون رقم (137) الصادر عن (بعض اعضاء مجلس الحكم العراقي الموقت) بطريقة التفافية مستغلين غياب بعض الاعضاء الليبراليين ليلغي ذلك القانون.
ومن غير المستغرب هنا ان نجد تطابق وجهات النظر العشائرية- الدينية في مثل هذه القضية حيث العودة الى تلازم او تلاقح القيم العشائرية بالقيم الدينية او التفسيرات الدينية والاسلاموية تحديدا هنا والمبنية على اسس قيمية.
المؤمل في حاضر ومستقبل العراق ان تنهض مؤسسات المجتمع المدني والحركات والاحزاب السياسية خاصة والنخبة المثقفة بلعب دور كبير يسحب البساط من تحت اقدام العشيرة والمؤسسة الدينية التي تستأسد بعد كل نداء يدعوها الى التدخل في كل مناحي الحياة ويفوض امر الشارع لها جملة وتفصيلا.
اذا كانت المؤسسة الدينية مؤهلة للاجابة عن الاسئلة والاستفسارات الدينية المتعلقة بالطهارة والنجاسة فانها غير مؤهلة للاجابة عن الاسئلة السياسية والاقتصادية وبناء صروح علمية ومجتمع متحضر يحضى فيه جميع ابناء الشعب (ذكور وإناث، قوميات وطوائف واديان، ومعتقدات فكرية اخرى) بالمساواة في الحقوق والواجبات.
واذا كانت العشيرة (7) مؤهلة لحفظ دم ابنائها فانها غير مؤهلة للدفاع عن بلد باكمله وغير قادرة على اقرار ديمقراطية توزع فيها المكانات والمراكز على اسس الاكتساب لا على اسس التنسيب مثلما هو قائم في العرف العشائري.
* أكاديمي وباحث أنثروبولوجي مقيم في هولندا.
الهوامش والمراجع:
(1) حديث نبوي.
(2) آية 13، سورة الحجرات.
(3) لعلها سنينة او سنة ومجموعها سنن.
(4) من المرجح ان يكون مستوحى من شعار الدولة العثمانية او تركيا الحديثة (الهلال والنجمة).
(5) طبق ذلك في فترة عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين.
(6) عدنان كوجر، الدولة والمجتمع – التحول الزراعي في العراق 1921-1991، عرض هاشم النعمة، http://www.iraqhome.8k.com/0106/page13.htm
(7) من الافضل تسييس القبيلة ودمجها قدر الامكان بالاحزاب طالما كانت لديها طموحات (مناصب). وفي هذه الحالة فان بالتاكيد سوف لا يتم تجنيد كامل افراد العشيرة في حزب ما بقدر ما هو تفتيت لبنيتها العصبية القائمة على اساس الدم لتتحول الى اتماءات اخف وطأة واقل إلزاما لافرادها كي يتحول ولاؤهم الاكبر الى الوطن.