مسألة الحجاب المتفجرة في فرنسة لم تكن مجرد مسرح نستعرض فيه قصورنا وتخبطنا في مواجهة هذا العالم المتداعي علينا فحسب , بل لقد أثبتت فقرنا للالمام بكل أطراف القضايا التي ننبري للدفاع عنها دون أن نحسن فهمها والتدقيق في ملابساتها .
بعضنا اشتطّ في دق طبول الحرب الحضارية المقبلة بين الاسلام والغرب وكأن هذه الحرب لم تبدأ منذ قرون ؟!, بينما بعضنا الآخر يريد أن ينسلخ من جلدته ويخرج من بين جنبيه ارضاء لحكوماتنا المنبطحة في وجه الغرب تريد أن تقدم له الدليل على انها بريئة من الاسلام وأهله. بعضنا اتخذ من الموقف الفرنسي ذريعة ممتازة لاخراج كل أضغانه على الاسلام والمسلمين , والبعض الآخر تشبث بنظريات المؤامرة والحقد الغربي علينا ورغبة هذا الغرب المحمومة في استئصالنا والقضاء علينا!.
لست من الذين يظنون في هذا الاطار أن مشكلة الحجاب في الغرب تشكل عنوانا لصراع _ آخر_ قادم بيننا وبينه , وربما أكون على خطأ في تقديري للمسألة وربما تكشف الأيام عن ملابسات أخرى للقضية , انني من الذين يظنون أن هذه المسألة مجرد فقاعة أو بالون اختبار بالغ الخطورة لطبيعة الوجود الاسلامي في الغرب , أُطلق في باريس بجهود يهودية صهيونية محضة دعمناها نحن بجهلنا بديننا وبحاضرنا ومن ثم بتطبيقاتنا الثقافية المغرقة في اتخاذ العادات والتقاليد دينا من دون دين الله .
لقد حملت الجاليات العربية والمسلمة المهاجرة أو المُهجرة الى الغرب معها كل أمراضها الثقافية الناتجة عن انسلاخ مجتمعاتنا عن فهم جوهر الاسلام وطبيعته , وعرضتها على العالم وكأنها الاسلام الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , وحدث في هذا الشأن شقاق نكد بين المنطق الحضاري الانساني العام في بلاد أوربة وبين مايراه القوم من ثقافات لايمكن القبول بها في ظل القوانين التي تحمي حقوق الانسان وكرامته , وحق لهم هذا الاعتبار لأن معظم سلوكياتنا في الغرب لاتمت الى الاسلام بصلة.. وهكذا اختلط الحابل بالنابل واعتبر ت المرأة المحجبة بارادتها مجرد تجسيد للقهر واغتصاب الحقوق المدنية لهذه المرأة .. وصار من العسير بمكان على المسلمين المهاجرين المستَثنين في معظم البلدان الاوربية من عملية صناعة الثقافة والاعلام والرأي اقناع هذا المجتمع بأن الأمر ليس على هذه الصورة وأن بعض التطبيقات المشوهة للاسلام لاينبغي أن تصبح ذريعة للتضييق على عباد الله في دينهم الذي فرّ به كثير منهم من بلادهم العربية والاسلامية التي لم تفسح لشعوبها خلال الأعوام الستين الماضية فرصة سليمة لممارسة وظيفتها في النمو بمفاهيمها الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية , وذلك بسبب من القهر السياسي تارة ومن القمع الاجتماعي والفكري تارات أخرى.
من جهتنا......الأخطاء القاتلة للجاليات المسلمة في الغرب هي التي أوصلتنا الى هذا المأزق , والذي أرى أننا نحاول حله بإحداث مأزق أكبر منه , من هذه الأخطاء معاملة المرأة بطرق غير اسلامية غير حضارية , فنحن عندما لم نفهم طبيعة اسلامنا أصبحنا مجرد مواطنين لاننتمي الى أي حضارة , ولكن الى جاهلياتنا وإلى عادات وسلوكيات لاتمت لاللاسلام بصلة كما لاتمت للسلوك المتمدن الحضاري بصلة , خذ على سبيل المثال اصرار البعض على تربية نسائه من زوجة أو بنت أو أخت بالضرب العنيف وأبلغ أنواع سوء المعاملة النفسية, حرمان المرأة من كل حقوقها الفردية والأسرية والمادية وتهديدها الدائم بالطلاق أو الزواج بأخرى , ارغام الفتيات الصغيرات جدا على الحجاب بدعوى أنهن يجب أن يعتدنه باكرا , إرغام الفتيات في عمر المراهقة على التزام سلوك معين يراه الأهل دون نقاش ولاحوار ولااستيعاب لهذه البنت بالمحبة والمودة والمعاملة الحسنة , تزويج البنت رغم أنفها ممن تكره واعتبار المهر ثمنا لهذه البنت ,وهناك من مازال مصرا على اعتبار المهر بدل استئجار لرحم المرأة في عصر الهندسة الوراثية !!, عرقلة الزواج بين الشباب وجعله قضية تعجيزية تابعة لأهواء الاهل وأمزجتهم وحتى اختيارهم الشخصي بعيدا عن رغبة وارادة الشباب المعنيين أنفسهم!.
اذا كانت بلادنا تستغيث وتنوء بمثل هذه المخالفات الشرعية والحضارية والانسانية فماذا نريد أن يكون الحال في البلاد التي تحمي حق الفرد وسلامته الجسدية والنفسية وتحرس انسانيته بنص الدساتير والقوانين وسلطة الشرطة والقضاء؟!.
سوء فهمنا لاسلامنا هو السبب فيم نحن فيه اليوم من مآزق , والمصيبة الحقيقية تكمن في أننا نقدم للعالم فهمنا القاصر وغير السوي للاسلام على أنه الاسلام.. كما نقدم ثقافاتنا المحصورة في الزمان والمكان وكأنها هي حضارتنا العظيمة .
قضية الحجاب المثارة في فرنسة لن تخلو من خطورة حقيقية اذا نحن لم نحسن التعامل معها , اننا أمام امتحان واختبار لقدرتنا على تجاوز أنفسنا قبل أن نكون في مواجهة صدام مزعوم مع الحضارة "المضيفة –الغازية" .
أما من جهة القوم....... فلقد بذلوا _في عامتهم ولا أتحدث هنا عن القانون والقضاء والدستور _ قصارى جهدهم في تهميش وايذاء واقصاء واذلال العرب والمسلمين المقيمين بين ظهرانيهم يساهمون في قيام نهضة الغرب وازدهاره يوما فيوما وساعة فساعة وخلال خمسين عاما , ولقد تكرس سوء المعاملة النفسية والاجتماعية هذه والتي لايستطيع انكارها أحد في جميع المؤسسات الاجتماعية والاعلامية وحتى السياسية , ولم يخف الغرب وعلى جميع هذه الأصعدة حجم الكراهية والرفض التي يحملها للاسلام وللمسلمين , وأنا لااستطيع ولاأريد أن أزعم أننا في وضع نحسد عليه , كما لاأزعم أن في الدول الغربية من لايتمنى نشوء صدام دموي مع الجاليات العربية المسلمة المقيمة بين ظهرانيه ليحصل على المبرر الكامل واللازم والكافي لاخراج المسلمين إما سلماً أو ذبحاً من اوربة , كما لاأظن أن في الغرب كله بشقيه الأمريكي أو الأوربي وبكل اتجاهاته السياسية والفكرية والثقافية من يُكن لنا اليوم حباً أو احتراماً , بل ان القوم لاتنقصهم النوايا ولا المبررات لكراهية الاسلام واعلان الحرب سرا وجهرا عليه داخل أرضهم وخارجها لاعتبارات تاريخية وثقافية ونفسية بل ولاعتبارات سياسية تتعلق بوجود الحضارة" المسيحية –اليهودية" –كما تسمي نفسها - واستمرارها في الهيمنة على البشرية اليوم .
ولكن هذا لاينفي أن بعض تلك الكراهية وهذا العنف الذي يمارس ضد الوجود العربي المسلم في الغرب كان بسبب من الدعاية الصهيونية الدؤوبة التي جعلتنا وحوشا في نظر هذا الغرب, كما بسبب سلوكياتنا غير الاسلامية وسوء فهمنا وتطبيقنا للاسلام , ولكن كان واجبنا أن نوظف هذه الأمور والعوامل مجتمعة لنحول القضية الى قضية امتحان حقيقي لقدرة الديمقراطية على استيعاب الآخر , لا أن نصبّها في بوتقة صدام بين الحضارتين يكذبه الواقع ويكذبه التعايش اليومي العصيب المرير بين المهاجرين المسلمين وأصحاب البلاد الاوربيين , وتكذبه حاجة القوم الماسّة لانساننا وجهده وشبابه وثرواته وحاجتنا لتقنيات الغرب وحضارته وبعض المجالات التي اثبت فيها تقدمه انسانيا واجتماعيا .
غزوهم لنا قوبل بنزوحنا إليهم , والبلاد مافتئت تُفتح منذ خلق الله الأرض وماعليها بعز عزيز أو بذل ذليل.
اننا أمتان محكوم عليهما بالحوار الدائب الأليم والتزواج المصلحي العجيب , وقد تجدان نفسيهما بين الحين والحين مدفوعتان الى صدام تفرضه المطامع الغربية التاريخية الدائمة في أرضنا وثرواتنا ..وهذا لايعني أن القوم لايتمنون رحيلنا وزوال وجودنا اليوم من أرضهم أو أنهم بدؤوا بالفعل يشعرون بأخطار حقيقية تهدد حضارتهم وثقافتهم بل وطبيعة التركيبة السكانية للبلاد , وأخطر من هذا وذاك الأخطار البالغة التي تهدد السياسات الغربية التاريخية في المنطقة التي أسموها لنا "الشرق الأوسط" بقلبها الذي يريدون له أن يبقى نابضا وحده "اسرائيل" !.
كلنا يعلم أن الوجود العربي الاسلامي في أوربة على هامش الانتفاضة الفلسطينية المستميتة في سبيل التمسك بحقوقها قد أسهم على الرغم من الاستثناء والتغييب والاقصاء في تغيير الرأي العام الأوربي لصالح القضية الفلسطينية , وهذا تغيير تاريخي غير مسبوق ولامنتظر بالنسبة للذين يمسكون بزمام الأمور الاعلامية والاقتصادية والسياسية في الغرب من الطبقة الصهيواستعمارية, وهذا أمر لايبشر بخير بالنسبة اليهم فكان لابد من اتخاذ أسباب حقيقية للتضييق على هذه الجاليات .
والأمر كما نرى... انه حبة خردل من جانبنا وشيء من علقم من جانبهم , والتقت هذه التيارات المتعاكسة المتضاربة على أمر قد قدر!.. ولم يبق للمسلمين في أوربة الا الصبر وانتظار أقدارهم بكثير من الحنكة وحسن السياسة وتوحيد الصفوف , فنحن الذين أعطينا القوم المبررات الكافية واللازمة لشن مثل هذا الحملة الشعواء ضدنا في ظل اطار قانوني دستوري سوف يشعل أوربة كلها بما لايعلمه الا الله مالم تحتكم القوى السياسية الاوربية للعقل والمنطق ودعاوى الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان.. ومالم تبادر الحكومات العربية من جهتها الى اعلان مواقف ثابتة وشجاعة لنصرة من كان يجب أن يكونوا رعاياها في زمن افتقد فيه المهاجر المسلم الرعاية والأمن والوطن الذي لم يكن قط الا عبئا عليه بدل أن يكون الملاذ والراحة والحنين والذكرى.