إن وحدانية الله تعالى في خلقه وتدبيره هي الكامنة وراء وحدة الأمة كمقصد من مقاصد الدين الإسلامي، وباعتبار أن هذه الوحدة واحدة في غايتها وهدفها، ما دام الإنسان خلق للخلافة في الأرض وتعميرا لها واستثمارها فيما يرضي الخالق. وقد قال تعالى في سورة الأنبياء :" إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون". إلا أن ضمان هذه الوحدة تحتاج إلى تربية فكرية تركس منهجية للتعامل والتصدي للمشاكل الحياتية والمسائل العملية. وتلعب هذه المنهجية الموحدة دول لحم الوحدة بين الأفراد المجتمع. كما أنها تؤسس التربية الصالحة للاستقامة في واقع يتميز بالتعددية الثقافية والعرقية والجغرافية . إنها تضمن التوازن الصحيح بين التنوع والتعدد من جهة والوحدة من جهة أخرى.

ومن المعروف أن الفكر هو منهج العقل في البحث عن الحقيقة والتربية الفكرية هي تنشئة على منهجية لتحقيق هدف. وبذلك فإن هذه التربية تعني صياغة المنهجية التي يعتمدها العقل للنظر إلى الكون بغية إصابة الحقيقة أو الاقتراب منها أشد الاقتراب.

والأخذ بهذه التربية تجعل العقل يكتسب صفات تساعده على تحقيق الغاية للحياة كما أرادها خالق الكون لمخلوقاته.

ومن المعلوم أنه عبر التاريخ الإسلامي ظهرت مذاهب متعددة، وكان لها آثار واضحة في وحدة الأمة سواء إيجابا أو سلبا. ويبدو ن تلك المذاهب نتاج عن اختلاف النمط الفكري والمنهجية في التفكير رغم وحدة العقيدة. وهكذا حصل تباين بين أصحاب المنهج الظاهري ومنهج التأويل ومنهج النقل. فالأمر يتعلق بالأساس في اختلاف منهجية التفكير.

وقد يفضي أحيانا هذا الاختلاف الفكري إلى اختلاف مذهبي ينتهي أحيانا إلى الاخلال بوحدة الأمة إلى حد الفتنة. لكن إذا كانت نوعية الاختلاف تحتفظ على الانفتاح على الآخر فسيكون من السعة قبول المخالف ما لم يكن سببا في اختلال وحدة الأمة . وبذلك يصبح الاختلاف سببا من أسباب تدعيمها. أما إذا كان الاختلاف يسقط في الانغلاق عن الذات والرفض للآخر والزعم بامتلاك الحقيقة، فالنتيجة حتما هي زعزعة وحدة الأمة.
وبالرجوع إلى التاريخ نلاحظ أن الاختلافات التي نالت من وحدة الأمة راجعة في أغلبها إلى منهجية التفكير والفكر الذي صدرت عنه في مبدئها، وهي منهجية غير منفتحة على الرأي الآخر ورافضة للحوار المفضي إلى التعاون، وبذلك تكون قد أخلت بالمعادلة التي تحقق الجمع بين الاختلاف المذهبي والوحدة، وكانت النتيجة هي الاختلاف المفضي إلى التناحر والتشتت.

فليس المطلوب هو أن تكون الأمة قاطبة مذهبا واحدا في اجتهاداتها وتصوراتها الشرعية وسبل تطبيقها لأنه أمر غير مطلوب في الدين الحق ما دام الاختلاف في الفهم من طبيعة الناس. وبذلك يكون المطلوب هو أن تكون المذاهب في نطاق ما هو صحيح من الدين ، وهذا الصحيح هو ما يضمن التواصل والحوار، وبالتالي التكامل وليس التناقض والتناحر.

وفي هذا الصدد تلعب التربية الفكرية دورا جوهريا وحيويا لتكريس منهجية في التفكير تقوم على أساس القبول والانفتاح على الرأي الآخر والتعاون في البناء الحضاري ضمن وحدة جامعة للأمة.

ومن أهم أسس هذه المنهجية حرية الرأي والنقد والمقارنة والشمولية والواقعية والحوار والتواصل.

فحرية الرأي لا يمكن أن تكون سببا من أسباب التفرقة كما قد يعتقد البعض، ما دام إن إتاحة حرية الرأي للمسلم تجعله يتربى عليها في تفكيره ويجتهد في إنتاج آرائه التي تمتحن بالحوار مع الآخرين ليتبين السديد من الخاطئ وبذلك يتحقق الالتقاء بالحوار والرجوع عما يتبين بطلانه.

في حين أن القمع الفكري يؤدي إلى حبس الأفكار والتفكير في نطاق ضيق وتصبح الأفكار يقين جازم وحق مطلق دون امتحانها بتداولها مع الآخرين على محك الحجة والبرهان. وبذلك يصبح كل مخالف باطلا وضالا.

ومرة أخرى يفيدنا التاريخ الإسلامي أنه كلما أتيحت حرية الرأي للأفراد انتظمت الوحدة الثقافية وغن تعددت المذاهب. وكلما ساد القهر الفكري. تزعزعت تلك الوحدة ونشأت الصراعات.

ولعل أكبر دليل على هذا ما كان يسود في العهد الأول للأمة الإسلامية من اجتهاد حر وطد تعاونا بين الأئمة المؤسسين للمذاهب الفقهية الكبرى. إلا أنه مع حلول عهد الجمود أغلقت أبواب الاجتهاد والتفكير وإعمال العقل وصودرت حرية الرأي وساد التعصب المذهبي الشيء الذي أفضى على الفرقة والخصام والتناحر. وبجانب حرية الرأي هناك الروح النقدية. وهي خصلة فكرية توجه نحو التقارب في الرأي والتعاون العاصم من التناحر.

إن الانفتاح على المذاهب والآراء الأخرى ومقارنتها بغيرها من شأنه أن ينشئ في النفس نوعا من الاستئناس، وأن يتيح الفرصة للاطلاع وجود السداد التي ينطوي عليها الرأي الآخر المخالف. وهذا يعتبر من دواعي التقارب والألفة والتعاون وبالتالي يحول دون التناحر والتفرقة والشتات.

في حين أن التربية على الرأي الواحد، التي تستبعد الاختلاف في الآراء، ترسخ في النفس روح التناحر والعداء بحكم أن الإنسان هو بطبيعته عدو ما يجهل. كما أنه من المعروف أن أكثر العلماء سماحة وإعذارا للآخرين أولئك الذين اتسعت معارفهم بالمذاهب وبالرأي الآخر، واعتقاد امتلاك الحق المطلق أما الغير فهو الباطل المطلق الجدير بالعداء والرفض والمواجهة والتصدي بأي ثمن.

أما فيما يرتبط بالشمولية، فهي خصلة فكرية تقدر الأحكام عبر استخلاص كلي من النظر في الجزئيات. والنظر الكلي يؤدي إلى الانحصار في دائرة الجزئية وبالتالي حتما إلى الاختلاف والتنافر. وهكذا أضحينا نلاحظ أن كل واحد ينظر في حديث نبوي واحد أو آية قرآنية واحدة وارتكازا على ذلك يصدر أحكام قيمة مطلقة دون أخذ عناء العمل على النظر الكلي.

وبخصوص الواقعية، فتعني ضرورة الانطلاق من الواقع المعاش كمعطى أساسي من معطيات البحث والتقدير. علما أن الواقع مادة موضوعية مشتركة بين الجميع وهو بذلك يكون منطلقا موحدا لا دخل لأحد فيه، وهكذا نضمن التلاقي في المنطلق وهذا من شأنه تضييق دائرة أسباب الخلاف والتفرقة.

وفي هذا الصدد يمكن الاستشهاد بالخوارج في معالجتهم للإشكالات الطارئة، إذ أسسوا مواقفهم على مقتضيات نظرية مجردة دون اعتبار ملابسات الواقع المعاش، بل إلغاؤه جملة وتفصيلا.

أما الحوار والتواصل فإنه يبسط الجسور بين العقول والأفكار والآراء ويمكن من الوقوف على ما تضمنته من قوة وضعف وذلك عبر التفاعل المشترك. وعندما يتربى المرء على الحوار والتواصل يصبح الرأي الآخر عنده معهودا والاختلاف و الاختلاف في نطاق القبول المتبادل والاستفادة المتبادلة. في حين إذا تربى المرء على الانغلاق تنمو أسباب القطيعة والعداء والتناحر. والفكر الحواري والتواصلي يدعو إلى الإفضاء إلى الغير وسماع ما عنده وبذلك تحضر أسباب التقارب والقبول المتبادل نفسيا وعقليا.

وبذلك تكون التربية الفكرية بهذا المنظور عاملا من العوامل الأساسية لتفعيل الاختلاف في اتجاه تقوية الوحدة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية