الملاحظة الأخيرة وردت في تقرير (نظرة على الإعلام العربي) الذي نشره نادي دبي للصحافة خلال منتدى الإعلام العربي الأخير. وبالرغم من أن تأثير الثقافة الإلكترونية قد حظي بالكثير من الدراسة من ناحية سرعة تداول الخبر وتفاعل الجمهور مع مكوناتها، إلا أننا في العالم العربي بالذات ربما نحتاج لأن ننظر للصورة بالعكس.. ونقرأ الطريقة التي بات القارئ والمتلقي يؤثر بها على المنظومة الإعلامية.
هذا الطرح قد يبدو غريباً في ضوء الفكرة السائدة عن غياب الحريات في الإعلام العربي المقيد بقيود المحظور والحساس والخط الأحمر. لكن لنترك القنوات الفضائية بتعقيداتها الاستراتيجية جانباً ولنركز على صحافة الإنترنت.. مواقع الصحف اليومية والمحطات الإخبارية، بالإضافة للمنتديات العتيدة. واحدة من أهم سمات هذه القنوات الإخبارية هي في إتاحتها المجال للمتلقي للمشاركة في الصناعة الخبرية. القارئ صار بوسعه أن يعلق على الخبر في التو واللحظة. أن يزود هيئة التحرير وبقية القراء بوجهة نظره الشخصية. ليس ذلك وحسب. بل وبات بوسعه أن ينشر خطابه علناً للمؤسسة الصحفية مصححاً وموضحاً بل ومنتقداً للحرفية الصحفية أحياناً.
هذا التوسع في نشر الرأي الالكتروني طالما اعتُبر ظاهرة (صحية) ورمزاً تقدمياً. لكن.. ألا يمكننا في ضوء قراءة لما ينشره السادة والسيدات قراء المواقع الإلكترونية.. أن نعتبر أن المتلقي هو في الواقع جزء من أزمة الإعلام العربي المتهم عادة بالضحالة والركاكة ونقص الاحترافية؟
لأولئك المشتغلين بالهم الإعلامي العربي، من محررين وصحافيين وحتى كتاب رأي.. فإن ردات فعل القارئ الإلكتروني يمكن حصرها ضمن أنماط معينة معروفة ومجربة عبر السنوات الأخيرة. وفي حين يمكن تبرير الطبيعة الجماعية التي تسير حشود المتلقين، فإن ما يثير القلق هو لعب المؤسسات الإعلامية على هذه الأنماط بقصد. واستهداف بعضها دون سواه من خلال الصياغة الخبرية وأسلوب الكتابة والتحرير. المتلقي العربي بات هو من يفرض على نفسه صيغة الخبر.. وإن لم يعجبه في النهاية. وبات هو من يكتب المقال.. حتى قبل أن يقرأه!
ليس من الصعب أن نسرد بعضاً من أنواع المعلقين الإلكترونيين الشهيرة. هناك النمط (التصنيفي). ذلك الذي يقرأ الخبر أو المقالة.. أكثر من مرة ربما. ثم يتحفك بتساؤله العتيد: "ماذا تريد من ذلك كله؟". أمثال هذا قد يشكلون عقدة للكاتب الذي سيجد نفسه غارقاً في بحر من التبريرات والاعتذارات لكل جملة وكل علامة تعجب يكتبها من دون أن يجد مساحة لعرض فكرته الأصلية المفيدة.. ربما.
نمط آخر شهير من القراء هو ذاك الانتقاصي. لا شيء يعجبه. الأخبار عنده إما فنية هابطة، أو رياضية سخيفة، أو متعلقة ببلدان أبعد من نطاق اهتمامه. هذا القارئ.. مع ذلك كله.. هو أول من يقفز ليعلق ويسهب في التعليق على تفاهة الخبر وسخف المقال وتعاسة الكاتب. وهو قارئ غالباً ما يدعّم رأيه الجارح بواقع (متابعته) المتواصلة لهذا النوع من الهراء!
هناك قراء (خَطابيون).. يميلون للتعليق على المقال بمقال مثله أو خطبة عصماء.. ربما لاتمت لأصل الموضوع بوافر صلة. آخرون (تحليليون) لديهم قدرة فائقة على تجميع كتابات كاتب بذاتها واستخلاص معنى واحد منها جميعاً يلصقونه بصورة الكاتب أو بشعار الصحيفة إلى الأبد.
دراسة أنماط المعلقين العرب على الخبر الإلكتروني شيقة إنما لا تخلو من مرارة. وهي دراسة محفزة على طرح تساؤلات كثيرة وبدهية. ذلك أن الكثير.. والكثير جداً من التعليقات التي تنشر على المقالات في مواقع الأخبار الإلكترونية لا تمت بصلة لطبيعة المقالات المنشورة. هل يعني ذلك أن القارئ العربي لا يجيد القراءة؟ أم أن الكتاب العرب يعانون من مشاكل أصيلة في إيصال المعلومة؟ هل نجحت الإنترنت في تنمية ثقافة (الحوار) عندنا؟ أم أنها نعمة جاءت قبل وقتها.. قبل أن نتعلم فنون الكتابة والقراءة أولاً؟ متى سنتخلص من الشخصانية في التعاطي وننظر لذات (الفكرة) بغض النظر عن اسم كاتبها أو شكله؟
أحياناً.. وأنت تتابع توالي التعليقات على مقال ما بموقع إلكتروني.. تتملكك قناعة بأن القارئ إنما ينصب نفسه (خصماً) للكاتب.. وكأن المسألة صراع إرادات. لذا فإنه لا هم للقارئ إلا أن يجد وسيلة لنقد كاتبه.. أو نقد الدولة التي يحمل جنسيتها.. أو حتى إكثاره من استخدام علامات الترقيم في كتاباته. أمثال هؤلاء كثر. وبعضهم سيقرأ هذا المقال ثم سيساءلني –بذكاء- عن السبب في تناولي للقارئ العربي بالذات.. بينما نقد الكتاب العرب وتصنيفهم هو الأولى. وهو ما سيعود بنا للتساؤل عنوان المقال!