الأدب العربي و عالم التدوين الإلكتروني 1: مدخل إلى عالم التدوين
لطالما كَتبَت أقلام الباحثين عن بداية التدوين البشري و أول نقش على الحجر، و أول قصيدة مُدوّنة، و بداية تدوين القرآن الكريم... و غيرها من العناوين التي أثرَت المكتبة العلمية و الأدبية في موضوع التدوين الورقي أو ما شابهه من تدوين على الحجارة و تدوين على الجلد... و غيره. و ها نحن الآن نعيش نقلة نوعية و كمّية في عالم التدوين الذي دخل مرحلته الجديدة في ظل تطور التكنولوجيا، و تحكّم الشبكة العنكبوتية في جزء كبير من حياة البشرية، لنجد أنفسنا مضطرين إلى مواكبة العصر و استغلال الجديد لفائدة القديم، و بهذا نكون قد أمسكنا العصا من النصف، في محاولة جادة لإثبات هوية اللغة العربية و آدابها. و السؤال المطروح هنا : ما هي محفزات و مزايا التدوين الإلكتروني (Blogging) للغة العربية و آدابها؟ و هل في ذلك خطورة على مسيرة التدوين الورقي؟ و ما هي عيوب هذه الظاهرة الجديدة؟ و هل من الممكن تفاديها؟
عرف الإنسان منذ القِدم قيمة التدوين و دوره في الحفاظ على الموروث الفكري لكل حضارة، ليكون حلقة الوصل التي تربط الخلف بالسلف، و لا زالت النقوش القديمة شاهدة على ذلك، و هي شكل من أشكال الكتابة البدائية المعروفة "بالكتابة الهيروغليفية". و قد اكتشفت في مناطق مختلفة من المعمورة، و هي ليست حكرا على قوم من الأقوام، لأنّها مجرّد مجموعة من الصور المعبّرة عن أحداث و مظاهر حياتية، حيث كان أصحابها "يرسمون الشمس و يريدون بها التعبير عن الضوء، و يرسمون القمر و يعبّرون به عن الليل، و إذا أرادوا أنْ يدلّوا على المشي مثلا رسموا ساقيّ رَجل في حال الحركة، و هلم على هذا القياس."[1] لكنها تبقى قاصرة بالمقارنة مع أشكال الكتابة التي تلتها، ذلك أنّها "تعبر عن الكلمات برموز و لكنّها لا تعطي أي فكرة عن النطق."[2] في حين أنّ "الكتابة المقطعية Syllabic تحمل الكلمة إلى مجموعات أكبر من الأصوات و تعبر بعلامة واحدة على مجموعة من الأصوات كالكتابة المسمارية. أما الكتابة الألف بائية أو الأبجدية، و هي أرقى تطورا من الكتابات السابقة، فقد جرّدت أصواتا أوّلية تتكوّن منها اللغة التي تمثلها، و هي تُحاول أن ترمز إلى كل صوت من الأصوات الأوّلية برمز كتابي واحد."[3]
أمّا عن التدوين بالخط العربي فقد رُوِيت روايات عديدة، و غير مؤكّدة لعدم وجود الدليل القاطع؛ و من بينها: "...إنّ أوّل من كتب الكتاب العربيّ و السِّريانيّ و الكتب كلها آدم عليه السلام، قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها في طين ثم طبخه. فلما أصاب الأرض الغرقُ وجد كلُّ قوم كتابا فكتبوه، فأصاب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربيّ."[4] أمّا ابن عباس فكان يقول: "أوّل من وضع الكتاب العربيّ إسماعيل عليه السلام، وضعه على لفظه و منطقه."[5] و من مثل هذه الآراء و غيرها الكثير. لكن الأهمّ من ذلك هو معرفة البداية الحقيقية للتدوين الهادف، حيث تجسّدت أوّلا في جمع القرآن الكريم في مدوَّنة واحدة بعد أنْ كانَ موزّعا على مجموعة من المخطوطات، فهذه الأخيرة كانت عبارة عن جلود و عظام (أكتاف الحيوانات) و صخور و جريد النخل...إلى أنْ كان عهد أبي بكر -رضي الله عنه- و نُقلت محتوياتها في صُحُف، و من ثمّ جُمعت في مصاحف على عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- و استخدمت في نشر رسالة الإسلام.
هكذا كانت البداية الفعّالة للتدوين العربي، التي تلتها خطوة أخرى في غاية الأهميّة، إنّها مرحلة تدوين الحديث الشريف. ثمّ جاءت الخطوة الثالثة، حيث بدأ التدوين لأعمال من صنع علماء اللغة و الدين في وقت اقتضت فيه الضرورة إلى نشأة الدرس اللّغوي "... خدمة للقرآن الكريم، فعنى المسلمون منذ القرن الأوّل الهجري بتدقيق الكتابة العربية و تقييد الحروف الكتابية بالشكل صونًًا لكلام الله عزّ و جلّ عن أن يصيبه التحريف."[6] و عن ذلك يقول ابن خلدون: "احتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب و التدوين خشية الدروس[7] و ما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن و الحديث فشمّر كثير من أئمة اللسان لذلك و أملوا دواوينهم."[8] فكان كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي سباقا في هذا الميدان.[9]
هكذا كانت البداية لظهور عالم ورقي ضخم، وَضع بين أيدينا مادّة غنية للدراسة و التمحيص، مما مكّننا من القراءة في التراث مرّات و مرّات لخلق نصوص جديدة تجمع بين الأصيل و المعاصر، و القراءة على رأي عبد السلام المسدّي ليست سوى "صوغ لمقول دُوّن من حيث يُنشد به ابتعاثه باللفظ الحاكي عبر الخط الرامز."[10] إنّه الخط الذي ساهم بشكل واضح في الحفاظ على لغات الأقوام، و هو ذاته الذي أدهش دو سوسير، فقال عنه: "تذهلنا...الصورة الخطية للكلمات كغرض مستمر ثابت، فهي أكثر قدرة من الصوت على تشكيل وحدة اللغة عبر الزمن."[11] ليس ذلك و حسب، بل هي وسيلة ناجعة في مجال التعليم و الإعلام و ما شابه، ذلك أنّ " الانطباعات البصرية لدى معظم الأفراد لهي أكثر دقة و ديمومة من الانطباعات السمعية. و لهذا، فإنّهم يرتبطون بالانطباعات البصرية بشكل أفضل. و الصورة الخطية تفضي إلى أن تفرض نفسها على حساب الصوت."[12] و هذا ما جعل الأفراد يتّجهون إلى التدوين في كل المجالات.
و منذ مدّة ليست بالبعيدة، كنّا راضين كلّ الرضا بالنتيجة التي وصلنا إليها كعرب في مجال التدوين، إلى أنْ طرق بابَنا هذا الزائر الجديد، و الذي لا أظنه ضيفا علينا، بل أقول إنّه أصبح واحدا منْ عالمنا الفكري، إنّه التدوين الإلكتروني الذي فتح أمامنا أبوابا للنجاح الفوري و الكمي، و قدّم لنا وسائل و إغراءات لا يمكننا رفضها لما لها من مميّزات.
في البداية، عارض الكثير من الكتّاب ظاهرة التدوين الإلكتروني، و اعتبروها دخيلة على حضارتنا، ظنّا منهم أنّها صُمِّمت خصيصا لخدمة الحضارة الغربية، حيث "كان المتوقع هو عزوف الأدب عن التكنولوجيا الرقمية (المتمثلة في شبكة الإنترنت)، وبقاؤه محافظًا على روح التقليدية التي تصبغه بها الصورة النمطية للكتاب في الأذهان، ورائحة الأوراق الصفراء التي تمتزج برائحة غبار السنوات والقرون التي يحملها بين دفّتيه، إلا أن الواقع جاء مخالفًا لكل توقع، فقد تمكن الأدباء في مختلف أنحاء العالم من التكيّف مع التسرب التكنولوجي إلى الفضاء الأدبي، ولم ينكروا أو يستنكروا، بل رحبوا بذلك، وقاموا في سبيل تأكيدهم على موقفهم الإيجابي والمرحب بالطارق الجديد بإعادة نشر نتاجاتهم الأدبية رقميًا على شبكة الإنترنت، لما لمسوه من تفوقها على النشر الورقي في عدة نواحٍ، كسهولة النشر، وسرعته، وسعة انتشاره، وزهد تكلفته."[13]
كما حاولت نخبة من كتاب الجيل الجديد إزالة اللبس و توضيح الأمور، حيث دعت إلى استغلال هذه الوسيلة لخدمة الأدب على وجه الخصوص مثله مثل الإعلام و الفنون و الميادين الأخرى، ذلك أنّ الأدب في أمّس الحاجة إلى التعميم و التفاعل و الحيويّة. و أثمرت هذه الآراء مجموعة من المقالات العلمية و الكتب المتخصّصة، على غرار كتاب الدكتورة فاطمة البريكي (مدخل إلى الأدب التفاعلي، تاريخ النشر: 01/04/2006، الناشر: المركز الثقافي العربي الطبعة:1).[14] و في مقالة لها قالت: "من الواضح والمشهود لنا به أننا قد اعتنينا بتراثنا كثيرًا، وبالغنا في الاعتناء به، ولكن من خلال حفظه في أفضل الخزائن، وإحكام الإغلاق عليه، حرصًا عليه من الضياع، وتعيين من يقوم بتنظيفه، بشكل دوري، مما يتراكم عليه من الغبار، نتيجة عدم الاستخدام، حماية له من التلف، ولكننا لم نقم بما كان المطلوب منا القيام به، وهو قراءة هذا التراث بعين البصر والبصيرة، ونقده، ومعارضته بما توصل إليه الآخر، وتعريف الآخر بما توصل إليه أجدادنا، وتقديم كل ذلك له في صيغة جديدة، تتناسب والعصر الذي نحن فيه، بعد أن نكون قد أعملنا أذهاننا وعقولنا، وأرهقنا أجسادنا، وبذلنا الغالي والنفيس في سبيل ذلك."[15]
بدأ التدوين الإلكتروني بالعربية محتشما في ظل غياب أنظمة حاسوبة عربية متطوّرة، فدخل المغامرة بوسائل بسيطة، حيث اكتفى بتصوير الكتب و المقالات بواسطة الماسح الإلكتروني (السكانير) و ذلك بعد الرقن و الطبع، لذلك كانت الفائدة قليلة، حيث عُمّمت تلك المدوّنات، لكنّها كانت جامدة و غير قابلة للتصويب و لا الإضافة، لأنّها كانت مجرّد صور، تفتقد إلى إمكانية البحث و النسخ.[16]
لم ينتظر المدوّن العربي و لا المتلقي العربي كثيرا، حيث واكبت هذه الظاهرة شبيهتها في الغرب بسرعة. و أصبح من الممكن استخدام لغة HTML [17] بكل بساطة، و ذلك باستخدام الواصفات Tags المتوفرة فيها، و التي تساعد على إعطاء الشكل المميّز الذي تظهر عليه المدوّنات أمام المتلقّي، كما أنّها تسهّل عليه عملية البحث على صفحات الأنترنيت، لأنّها تعرض عليها كل المعلومات و الروابط اللازمة.
في السابق؛ كان على المدوّن تعلّم لغة HTML أو الاستعانة بأصحاب الخبرة لاقتحام هذا الفضاء، أمّا الآن فأصبح بإمكان الجميع و باختلاف ثقافاتهم ولوج عالم التدوين الرقمي، و ذلك بفضل مجموعة من المواقع المتخصصة في تقديم القوالب الجاهزة للمدوّنات (أمثال موقع مكتوب و جيران...). تحتوي القوالب الجاهزة على أشكال و ألوان و إضافات كثيرة، ينتقي منها المدوّن ما يرغب به، كما أنّها تقدّم خانات جاهزة لوضع العناوين و النصوص و الواصفات و الروابط الإضافية و شروط المشاركات و اسم المؤلِّف و سيرته الذاتية...و كأنّه في آخر خطوة من خطوات استعمال لغة HTML.
أتاحت هذه التسهيلات الفرصة لكل من هبّ و دبّ ليخوض تجربة التدوين، لكنّ التجارب العشوائية أو الصبيانية -إن صحّ التعبير- لا تكاد تظهر لتختفي، لذلك لا داعي من إعطائها أيّ اهتمام، ثمّ إنّ لكل مرسل متلقّ يناسبه. إلاّ أنّ الأمر لا يخلو من بعض النقائص و السلبيات، التي تبقى -بالرغم من ذلك- ضئيلة مقارنة بالإيجابيات.
______________________________________________________________________
[1] مصطفى صادق الرافعي، تاريخ آداب العرب، ط 4، 1394هـ/1974م، دار الكاتب العربي، بيروت، لبنان، ج 1، ص 64.
[2] محمود السعران، علم اللغة -مقدمة للقارئ العربي، ط 2، 1417هـ/1997م، دار الفكر، القاهرة، مصر، ص 257.
[3] نفسه، (انظر في الإحالة 1) ص 257.
[4] أحمد بن فارس، الصاحبي في فقه اللغة العربية و مسائلها و سنن العرب في كلامها، تعليق أحمد حسن بسج، ط 1، 1418هـ/1997م، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص 15.
[5] ينظر المصدر نفسه، ص 15.
[6] محمود السعران، علم اللغة -مقدمة للقارئ العربي، ص 262.
[7] اِنْدَرَس: انمحى و انطمس.
[8] عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، ط 1، 1426هـ/2005م، دار ابن الهيثم، القاهرة، مصر، ص 485.
[9] راجع المصدر نفسه، ص 484، 485.
[10] عبد السلام المسدّي، مباحث تأسيسية في اللسانيات، ط 1997م، مط كوتيب - تونس، ص 40.
[11] فاردينوند دو سوسير، محاضرات في الألسنية العامة، ترجمة يوسف غازي و مجيد النصر، المؤسسة الجزائرية للطباعة، ص 41.
[12] نفسه، ص 41.
[13] فاطمة البريكي، في ماهية الأدب التفاعلي، موقع دروب، الرابط: http://www.doroob.com/?p=4134
[14] لرؤية غلاف الكتاب انظر الرابط:
http://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=lbb145099-106396&search=books
[15] فاطمة البريكي، في ماهية الأدب التفاعلي، موقع دروب، الرابط: http://www.doroob.com/?p=4134
[16] راجع، إتش بي بالعربية، رابط الصفحة: http://www.khayma.com/HPINARABIC/htutor17.html
[17] HTML هو اختصار: Hyper Text Markup Language
... (يتبع)