إي والله، بكل صفاقة أعلنت الشركة الأم لمالئ الدنيا وشاغل الناس "تشات جي بي تي" أنها ستطلق أداة للكتابة الإبداعية باستخدام الذكاء الاصطناعي. "ولو كان سهما واحدا لاتقيته" كما يقول الشاعر، لكن سهما ثانيا جاء من حيث لا نحتسب؛ من جامعة ستانفورد العريقة. فاجأتنا الجامعة وأطلقت أداة "ستورم" التي ما إن تعطيها عنوان البحث الذي تريد، إلا كتبت لك بحثا موسّعا مشفوعا بالمراجع!
كنا نظن الجامعات الحصن الحصين أمام الذكاء الاصطناعي، كنا نظنها آخر المعاقل، والمقاتلة على الثغر الأخير لإيقاف هذا الغزو المريب. لكننا تفاجأنا بأنها صارت من مناصريه، بل من صُنّاعه! هذه خطوة تستوجب التمعن، فيبدو أن التوجه انتقل من محاربة الذكاء الاصطناعي، إلى تطويعه وتقنينه. فأداة "ستورم" تمشّط الشبكة، وتكتب بحثا متكاملا من هذه المواد. لكن الراسخون في البحث العلمي يعلمون أن هذه أبحاثُ مراجَعة لما سبق نشره، وليست أبحاثا أصيلة تنشئ معرفة جديدة. المعارف الجديدة تأتي من التجارب المخبرية، والمسوح، ودراسات الحالة، والملاحظة، والمقابلات، وتحليل المحتوى، وغيرها من طرائق البحث العلمي. أما مراجعة الدارسات السابقة، فأساس ينطلق منه الباحث، لكنه ليس البحث العلمي برمته. لكن ماذا لو تقدم الذكاء الاصطناعي وصار يجري التجارب، ويصمم المسوح، ويجري المقابلات مع الخبراء، وغير ذلك، ثم يحلل النتائج باستخدام أدوات التحليل العلمي، ويخرج بالنتائج، ويعطي التوصيات، ويسبك كل هذا في بحث رصين؟ في الواقع، يجب أن نكون مستعدين لمثل هذا اليوم الذي قد لا يأتي بعد عشر سنين أو عشرين كما تسول لنا أنفسنا المتفائلة أن نظن، بل قد يأتي في بضع سنين، أو شهور!
الموجة أقوى من أن نتصدى لها، والحل أن نتقن السباحة فيها، سباحةً تُبقي على الإنسان إنسانيته وقِيَمه وقيمته. بداية، لا بد من تشريعات تحدد المسموح والممنوع. ولا بد أيضا من أن نسعى لتهيئة الإنسان ليكون مشرفا على الذكاء الاصطناعي. فليكن دور الإنسان أن يلتقط مواطن الخلل والزلل، ويكشف عن الهلوسات، ويقبض على الانحيازات، وينقد الثغرات، ويوجه الذكاء الاصطناعي كما يوجه الأستاذ الأكاديمي الضليع تلميذه المبتدئ. وهذا يتطلب ابتداء أن يعرف الإنسان كيف يؤدي هذه المهام دون عون الذكاء الاصطناعي. سنحتاج إلى أناس من طراز رفيع جدا. وهذا -على عكس المتوقع- سيزيد من قيمة البشر؛ بشر معينين تعبوا على تطوير قدراتهم ليصيروا في مرحلة تفوق الذكاء الاصطناعي. سنحتاج إلى باحثين فائقين، وشعراء متقنين، ولغويين بارعين، وقانونيين أفذاذ، وخبراء في كل تخصص دقيق، ليشرفوا على المحتوى المولّد بالذكاء الاصطناعي وينقدوه ويقوموه ويتأكدوا من دقته ونزاهته.
وسيرسب في القاع مَن يفرحون بالذكاء الاصطناعي ويستخدمونه لحل واجباتهم أو للتفكير نيابة عنهم. هؤلاء، شأنهم شأن الذين حينما دخل الحاسوب الشخصي كل بيت، كان نصيبهم منه برامج الدردشة والألعاب وحسب!
المعضلات التي تأتي بها التقنية ليست جديدة على الإنسان. فحينما اُخترعت الآلة الحاسبة، لا بد أن هناك من توجّس منها لأنها تعطل قدرات العقل البشري الحسابية، وقد فعلتْ! فأنا شخصيا نسيت نصف جدول الضرب الذي حفظته صغيرةً. وحينما جاء المدقق الإملائي، علّم كثيرا منا الكسل والركون إليه في كل شاردة وواردة. وحينما جاء الفوتوشوب، جاء ومعه كومة من الأسئلة الأخلاقية والقانونية التي يتسبب بها تزيين الصور أو تزييفها. لكن، هل يمكن أن ننكر أن كل هذه الأدوات فرغت عقولنا لمهام أكثر تعقيدا وأكبر جدوى؟
حينما تخرج تقنية ما من قمقمها، فلا سبيل لإيقافها، لكن ثمة سبل للتأقلم معها. في زمان ما، كان لا يُستغنى عن الخطاطين. ثم حين جاءت الحواسيب، ابتلعت الخطوط الإلكترونية مجد الخطاطين. هل انقرض الخطاطون؟ نعم، أولئك الذين لم يطوعوا موهبتهم لتلائم التقنية. أما الذين فهموا سيرورة التاريخ، تحولوا إلى مصممي خطوط حاسوبية، يصمم بعضهم خطوطا حصرية للجهات وللشركات تباع بأغلى الأثمان. لم تلتهم التقنية رزق الخطاطين، لكن من تعلم منهم السعي بالطريقة الصحيحة بقي وتألق. في كل مهمة تستحوذ عليها التقنية، ثمة فرصة كامنة لإبداع أكبر للعقل البشري، والحاذق مَن يبحث في مظّان هذه الفرص.
الذكاء الاصطناعي مثل المصباح العجيب الذي وقع في يد علاء الدين. لمارد المصباح قدرات تفوق قدرات البشر كافة، لكنه -رغم هذا- لا يفعل شيئا دون أمر سيده، ولا يتمرد. والتحدي -كل التحدي- أن يستخدم الإنسانُ المصباحَ العجيب ... أو الذكاء الاصطناعي بحكمة ومسؤولية. الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى سيد يأمره، ويوجهه، وينقد عمله. فلنتعامل معه بعقلية السيد لا عقلية المهدَّد. كل ما في الأرض، مما خلق الله أو مما صنع الإنسان، مسخر لبني آدم الذين اختصهم الله بالخلافة في هذه الأرض. ولن يصير الإنسان عبدا للتقنية -التي صنعها لخدمته- إلا بإرادته، حينما يختار الكسل والاستكانة والركود.