يعد كتاب قطر الندى للغوي ابن هشام (ت 761 ه) من أبرز مصادر التأليف العربي في مجال اللغة العربية في عصر الشروحات والحواشي والملخصات. وبهذه الإشارة المقتضبة، فللكتاب أثر مهم، ويعد مجددًا في صياغة متن النحو العربي صياغة جديدة لا تزال مؤثرة في مناهج الدرس النحوي المتخصص الحالي. ونظراً لأهمية الكتاب العلمية والمنهجية، فقد عني الكثير من العلماء والمثقفين، والأكاديميين بشرحه وتلخيصه ودرسه وتدريسه. وضمن إعادة ترتيب، وتعديل لموضوعات، واختصار للكلام على المطبوع والمخطوط، واستدراك وزيادة، ومقارنة بين قائمتي الدكتور علي فودة نيل في كتابه: "ابن هشام الأنصاري: آثاره ومذهبه النحوي"، وعبد الله محمد الحبشي في كتابه: "جامع الشروح والحواشي"، والتعليق عليهما بما يلائم ضرورة التعليق، إلى أن يتم الوصول الى قائمة واسعة (مرتبة معدلة مزيدة)، تتضمن الجهود العلمية المبذولة في خدمة "قطر الندى"[1]، يكشف الدكتور عبد الحكيم الأنيس فيها عن أمرين: أولهما: قابليته الشخصية والذاتية الفذة والصبورة والدؤوبة على التقصي والتتبع لما أنجز خلال قرون حول متن ابن هشام من شروح وحواشي وملخصات وتوضيحات، وثانيهما: تأكيد لما سجلناه من المكانة الاعتبارية والأهمية المنهجية التي اكتسبها المتن المذكور.
يقول الدكتور عبد الحكيم الانيس: "بُذِلت في خدمة هذا الكتاب (لابن هشام) جهود علمية كبيرة متنوعة من شرح وحاشية وتقرير ونظم وتخريج للشواهد وإعراب لها، في بلدان مختلفة، بحيث أصبحت هذه الجهود تكوِّن مكتبة واسعة. وقد تتبعت هذه الجهود منذ أمد، ثم رأيت الأستاذ عبد الله الحبشي قد تتبعها تتبعاً جيداً، فقد أحصى الشروح والحواشي والنظم والشواهد، ورتب هذا على الشروح، فإن كان على الشرح حاشية ذكرها، ثم ذكر المنظومات، ثم الشواهد، ومشى على البدء بذكر المؤلف، ثم ذكر الكتاب في ذلك كله، وبيَّن المطبوع من الخطوط، فإن لم يعرف عنه شيء سكت، وللكتاب طبعتان، وفي الثانية تصحيح وزيادات على الأولى. ورأيت الدكتور علي فودة نيل تكلم على شرح القطر في كتابه "ابن هشام الانصاري:آثاره ومذهبه النحوي"، - وهو أسبق من كتاب الحبشي – قد تكلم عليه تحت العناوين الآتية: ..."[2]
ويكشف الشيخ عبد الكريم الدبان عن علاقته التاريخية بكتاب القطر لابن هشام، قائلاً: "قرأت شرح القطر على أحد مشايخي، وكان ذلك في أوائل سنة 1348 ّّه، وكنت أقرأ معه مقدمة في الصرف، وأخرى في المنطق، وموجزاً في البلاغة. ولا أزال أذكر أني كنت لا أرتاح لذكر الاختلافات والإطالة في الرد عليها، ولا للاستشهاد بالشواهد الشعرية التي لا يخلو أكثرها من غموض في المعنى وعسرٍ في الإعراب لمن كان في هذا المستوى؛ فإن هذا الكتاب إنما يدرسه ذوو المستوى المتوسط في هذا العلم، وهؤلاء يريدون فهم القواعد بشرحها والتمثيل لها بأمثلة واضحة. أمَّا ذكر الشواهد فإنَّما هو للبرهنة على صحة القاعدة. وهذا ينبغي أن يذكر في كتب هي أعلى من هذا المستوى. "[3]
وينقد الشيخ الدبان منهج ابن هشام في كتابه القطر، وهذا النقد نرى فيه إضافة جديدة تسجل لصالح الكتاب. فابن هشام، وفقًا للدبان، يعرف الكلمة بأنه قول مفرد، ويذكر الجنس القريب والبعيد[4]، وهذا ما يفهمه من درس علم المنطق. كما أنه يطيل الكلام حول بعض الكلمات هل هي أسماء أم أفعال أم حروف، مشيرًا إلى خلافات العرب حولها، بالإضافة إلى ذكر الشواهد الشعرية، بما لا يحتاجه طالب النحو في هذا المستوى. ويرى الشيخ الدبان أن الذي ذكره ابن هشام مفيد، ولكن الأهم هو التدرج في التعليم. إضافة إلى حاجة الطالب إلى درس الصرف من أجل الوصول إلى دراسة شرح الألفية. هذا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن أصحاب المناهج الحديثة يجمعون بين القواعد النحوية والمباحث الصرفية، كما يؤكد. أما المنهجية التي اتبعها الشيخ الدبان في تدريس كتاب القطر فهي كما يقول: " وقد قمت بتدريس شرح قطر الندى لكثير من إخوتي الطلبة، فوجدت أن بعض ما تقدم يربكهم ويستعصي عليهم فهمه. لذلك كنت في كثير من الأحيان أملي عليهم القاعدة بعبارة مبسطة مع أمثلة واضحة. وما أكثر ما طلبوا مني أن أكتب الكتاب المذكور بالطريقة التي أشرحها أثناء الدرس. وقد كنت أفكر في ذلك من قبل، لأني كنت أشعر بالفرق الكبير بين كتب النحو القديمة والحديثة. أقول هذا لأني قمت بتدريس اللغة العربية في المدارس المتوسطة والاعدادية مدة تزيد على ثلث قرن من الزمان، (وبالتحديد من سنة 1938 إلى سنة 1973 م)، وكنت أدرس وفق مناهج محددة في كتب حديثة مقررة لكل سنة دراسية. ويتلو كل موضوع تمارين متنوعة تدفع الطالب إلى تفهم الموضوع ليحل تلك التمارين. ومن ورائه امتحانات عليه أن ينجح فيها. " [5]
وهنا يكشف الشيخ الدبان عن المنهجية الجديدة التي اتبعها في كتابه، قائلاً: "وعلى كل فإني كتبت هذا الكتاب بالطريقة التي أتوخى أن تكون نافعة بإذن الله. وبعد الانتهاء من ذلك كتبت هذه المقدمة. فكتابي هذا إذا قال عنه قارئ: هو موجز لشرح القطر، فقوله صحيح، لأني أوجزت بعض ما أطال فيه المصنف، وإذا قال قارئ آخر: هو شرح لشرح القطر، فقوله صحيح كذلك، لأني أوضحت ذلك الشرح وأضفت إليه كثيرًا مما رأيته نافعًا ومناسباً لهذا المستوى." [6]
وأخيرًا، فبين كتاب توضيح القطر للشيخ الدبان، وعناية الدكتور عبد الحكيم الأنيس به، قرابة فكرية وروحية تكشف عنها مستويات عديدة، لعل منها وفاء التلميذ (الشيخ والدكتور والأستاذ فيما بعد)، لشيخه، ومنهج كليهما في التجديد والتسهيل والتوضيح، إضافة إلى عمق علمي كشف عنه الكتاب والعناية به.
[1] ينظر بحث الدكتور عبد الحكيم الانيس عن (الجهود العلمية المبذولة في خدمة "قطر الندى"، ضمن كتاب العلامة الشيخ الاستاذ عبد الكريم الدبان (1328 – 1413 ه): " توضيح قطر الندى"، اعتنى به وقدم له، د. عبد الحكيم الانيس، ط 1، دائرة الشؤون الاسلامية والعمل الخيري بدبي، حكومة دبي، دولة الامارات العربية المتحدة، 1429 ه – 2008 م، سلسة اصدارات مشروع حماية اللغة العربية (4)، ص 21 وما بعد. [2] الشيخ الدبان: " توضيح قطر الندى"، القسم الدراسي للدكتور عبد الحكيم الانيس، ص 21 – 22.
[3] من مقدمة الشيخ الدبان لكتابه: " توضيح القطر"، ص 53.
[4] الجنس القريب: " وهو ما كان جواباً عن الماهية وعن جميع ما يشاركها فيه كالحيوان فإنه يقع جواباً عن الماهية وهي الانسان مثلاً."، أما الجنس البعيد فهو: "ما كان جواباً عن الماهية وعن بعض ما يشاركها فيه كالنامي بالنسبة للانسان فانه يقع جواباً عنه وعن بعض ما يشاركه فيه وهو النبات."، ينظر: د. محمد رمضان عبد الله: " علم المنطق "، المجمع الرضوي العليمي، الجامعة الاسلامية – بغداد، بدون تاريخ، ص 22.
[5] من مقدمة الشيخ الدبان لكتابه: " توضيح القطر"، ص 54 – 55. [6] نفسها، ص 55.
التدقيق اللغوي : لجين قطب