تتوالى تخبطات وانتكاسات الاحتلال الأمريكي في العراق بسبب تصاعد ضربات المقاومة كمًّا ونوعاً على الجيش الأمريكي وذلك باعتراف الرئيس الأمريكي نفسه وكذلك وزير دفاعه الذي اضطر إلى تليمع صورته من جديد لتدني شعبيته ومطالبة الأمريكيين باستقالته وذلك بقيامه بزيارة مسرحية لقواعد الاحتلال في تكريت والفلوجة والموصل. وثالثة الأثافي جاءت من المؤرخ العسكري الذي عزا انتفاء الأمن والاستقرار في العراق إلى عدم وجود خطة ما بعد الإحتلال وبالتالي قد يتعرض الإحتلال إلى الهزيمة في نهاية المطاف. السؤال هو هل عدم وجود خطة لما بعد الإحتلال هو مقصود أم غير مقصود؟ أم هل عدم وجود الخطة هو خطة في حد ذاتها أم لا؟ إن ما حدث ويحدث هو استراتيجية نسجت خيوطها في البنتاغون منذ زمن بعيد منذ قررت الإدارة الأمريكية بناء إمبراطورية القرن الحادي والعشرين. والقارئ لكتابات الاستراتيجيين التابعين للبنتاغون يفهم ما يحصل الآن في العراق. فلم تكن سياسة تدمير الدولة ونهب ثقافة البلد وآثاره وتدمير البنية التحتية وحل الجيش والمؤسسات مجرد أخطاء كما يروج المحتل وحلفاؤه وإنما كان ذلك مقصودا مبرمجا في سياسة الاحتلال تمهيدا لإعادة بناء دولة من الصفر تدور في فلكهم وعلى مقاسهم. ولكن كما يقول الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وكان الشعب العراقي لهم بالمرصاد. فالقارئ للإصدار الأخير لكتاب أستاذ العلوم السياسية في كلية أركان حرب البحرية الأمريكية (توماس بارنيت) يتبين أن ما يحدث الآن في العراق هو مخطط له مسبقا قبل الاحتلال.. وقد يقول قائل: ليس المهم ماذا يخططون لنا ولكن المهم ماذا نحن فاعلون؟ ونرد قائلين: إن الفعل مع المعرفة والعلم بما يخطط (بضم الياء وفتح الخاء) في الجانب الآخر لهو أقوى وأنجع من فعل يجهل الحقائق ويتجاهل قوة وأهداف الآخرين.

ومن هذا المنطلق سأحاول استعراض الكتاب وهو بعنوان: (الخريطة الجديدة للبنتاغون: الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين-طبعة ثانية 2004) لمؤلفه توماس بارنيت Thomas Barnett أستاذ العلوم السياسية في كلية أركان حرب البحرية الأمريكية والذي قضى أكثر من 15 عاما متنقلا في أروقة البنتاغون شارحا نظريته الاستراتيجية عن الحرب والسلام في العالم. وهو من علماء السياسة المدربين في جامعة هارفارد، يصف نفسه بالمنظر الاستراتيجي للبنتاغون وله الحظوة الكبيرة لدى إدارة الرئيس جورج بوش الابن.



يتألف الكتاب من ثمانية فصول: الفصل الأول يتعلق بالحرب الباردة وانتهائها وفي الفصل الثاني يستعرض الفترة التي أعقبت الحرب الباردة وفي الفصل الثالث يضع تصورا للأمن الاستراتيجي الحالي وفي الفصل الرابع يصنف العالم ويقسمه إلى قسمين: مجموعة دول المتماسكة او المتواصلة ومجموعة الدول المتفسخة أو المفككة (دول الفجوة) أو كما أطلق عليه بوش الابن محور الشر وفي الفصل الخامس يصف المؤلف التهديد العالمي للتقدم والحضارة أو بعبارة أخرى يقدم تعريفا جديدا لأزمة الاستقرار العالمي وفي الفصل السادس يصف استراتيجية التعامل مع هذا التهديد والمحافظةعلى التقدم العالمي ويصف القوة التي ستنبثق لتتعامل مع التهديدات الأمنية ويكرس المؤلف الفصلين الأخيرين للرد على الآراء المضادة ويختم الكتاب بتصور الحلول التي تنتهي بالعالم إلى نهايات سعيدة.

إن قراءة هذا الكتاب تأخذ من القارئ طاقة تحمل كبيرة جدا من حيث العنجهية والصلف والسطحية في التحليل الذي يملأ صفحات الكتاب وكأن العالم الآخر هو مجرد ذباب أو جراد على الأحسن. ولكن حبي للإطلاع وللمعرفة وإدراكي بأهمية الكتاب لما يمثله بالنسبة لصانعي الحرب في البنتاغون حفزني على مواصلة قراءة هذا الكتاب الغريب العجيب دون كلل أو ملل.

إن الكتاب عبارة عن خطة لإدماج العالم غير المستقر وغير الآمن في العالم المستقر الآمن بقوة السلاح. ولكن السؤال هو هل تكون النتيجة حربا لا نهاية لها وبزوغ نظام عالمي مركزه الولايات المتحدة الأمريكية؟ لماذا يبقون في العراق .. ربما إلى الأبد؟ ولماذا لا يوجد هناك استراتيجية واضحة للخروج من العراق وأفغانستان؟ يحاول الكتاب في جميع فصوله الإجابة على هذه الأسئلة وشبيهاتها.

كان الغزو الأمريكي للعراق، في نظر توماس بارنيت، إنجازا عظيما. ولكن الرئيس بوش لم يوضح للأمريكيين لماذا هم باقون هناك في العراق ... وربما للأبد. فالكاتب يشرح نيابة عن الإدارة الأمريكية للأمريكيين لماذا لا يوجد هناك استرايجية أو سياسة خروج من العراق وأفغانستان كذلك؟

يقول في كتابه: "ليس هناك خروج من الفجوة ولكن ما يحصل هو تضييق الفجوة ... ومن الأفضل أن نتوقف عن خداع أنفسنا بما يتصل باستراتيجيات الخروج."

بداية قسم المؤلف العالم إلى قسمين أو فسطاطين ولا نعرف من استعار من الآخر هل ابن لادن استعار منه أم هو استعار من ابن لادن في تصنيفه للعالم. لقد قسم ابن لادن العالم إلى فسطاطين: فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان وأما (توماس بارنيت) يقسم العالم إلى قسمين وهما: مجموعة الدول المتماسكة والمتآلفة في الثقافة والاقتصاد ومجموعة الدول المفككة والمتخلفة الفقيرة ويطلق عليها دول (الفجوة). يحتاج الأمر عنده إلى إعادة كتابة القوانين وإلى نظام عالمي جديد يضمن استيعاب واحتواء تلك الدول المفككة المتخلفة التي يطلق عليها دول الفجوة في هذا النظام العالمي الجديد تكون فيه مسؤولية الأمن العالمي على عاتق الأمريكيين. فعلى الأمريكيين أن يتصرفوا بطريقة أو بأخرى لمجابهة ومقارعة "العنف" المتأصل في جانبه الأكبر في جماعات وأفراد في دول "الفجوة." تلك ويعتقد أن الدول المتماسكة تشارك الأمريكيين في هذه النظرة وهذا أمر طبيعي وأخلاقي وليست المسألة إمبريالية. ويصف (بارنيت) نفسه دائما بالمتفائل لأنه يعمل من أجل عالم أكثر أمنا لأولاده وللآخرين.

يبين (بارنيت)، مستخدما مصطلحات الترويج والدعاية والإعلان والحسابات، أن هناك دورين رئيسين على الولايات المتحدة أن تلعبهما في القرن الحادي والعشرين وهما إرساء قانون القوة والجبروت والآخر النظام الإداري الذي يبني بالقوة الأمنية. وللوصول إلى ذلك، على البنتاغون أن يبني قوتين كبيرتين وهما:
الأولى، قوة ضاربة سريعة صغيرة ذكية تستخدم في جميع أنحاء العالم أي خارج الولايات المتحدة الأمريكية فقط.
الثانية، قوة بوليسية كبيرة أقل بطشا وفتكا تستخدم القوانين العسكرية والمدنية في آن واحد وتعمل في داخل الولايات المتحدة وفي خارجها أيضا وليست مقيدة بقوانين الدولة.

فهاتان القوتان، في نظر المؤلف، هما الوسيلتان الأساسيتان الكفيلتان بتصدير أعظم بضاعة الأمن الأمريكية لعملائها. وكما هو الحال في أي تجارة تبادلية حرة، يقول: "نحن مستفيدون من التبادلية كما يستفيد الطرف الآخر (العميل) في نفس الوقت". ويقول بارنيت بوضوح أكبر: "إن تصدير هذا الأمن، في جزئه الأكبر، ليس إلا نتاجا للعمليات العسكرية الأمريكية المتواصلة. نحن الوحيدون أصحاب القوة العسكرية العظيمة في التاريخ ونحن الوحيدون الذين نملك خطة متكاملة لهذا الكون." ويمضي شارحا في بقية فصول الكتاب كيف أن هذه القدرة والقوة تستطيع ويجب أن تستخدم في خلق مستقبل عالمي "يستحق العناء والتضحية.


إن جبروت (بارنيت) هذا مأخوذ من توماس هبس Hobbes الفيلسوف والمنظر السياسي في القرن السابع عشر صاحب كتاب the Leviathan .

لم يستخدم المؤلف في كتابه لغة العقد والشراكة والتوافق والخيار ويرى أن الأمن قوة وقوانين واقتصاد وكل الأمور متصلة مع بعضها البعض. أي لا يوجد فصل بين أمور السياسة والاقتصاد. إنه يفهم أهمية الاستثمارات الأجنبية والمحلية على أنه علامة على صحة الأمة وحكمتها ولكن وصفته لتحقيق ذلك مرعبة وتصدم القارئ بدلا من أن يذهب إلى وسائل عملية تراعي السلام العالمي فعلا.

إن الكتاب مصمم خرائطيا لتأييد مهمة إزالة وتدمير دول "الفجوة". وفي هذا المجال يجب تغيير اتجاه القوة العسكرية الأمريكية وكذلك الحال مع النظام السياسي والاجتماعي. يجب أن تصبح القوة العسكرية قوة بطش جبارة هجومية ونظام إداري لبناء الدول يتم تأييده من نظام عالمي يبقي على معظم القواعد العسكرية في زمن الحرب الباردة ويضيف قواعد جديدة ومنصات إطلاق صورايخ في أمكنة جديدة. (لقد بلغ عدد القواعد العسكرية أكثر من 135 قاعدة حول العالم). إن جنود المستقبل سيتلقون أوامرهم ليس من اليابان وألمانيا فقط وإنما أيضا من قواعد جديدة في أوزبكستان وأذربيجان وأفغانستان والعراق وجيبوتي ومن غرب إفريقيا وجنوب إفريقيا ومن أمريكا الجنوبية.

يشير (بارنيت) إلى أن التوجيه والتغيير السياسي والاجتماعي الأمريكي قد بدأ بالفعل وأن البناء التنظيمي الجديد يعتمد على وثيقتين هامتين هما: قانون باتريوت 2002 the Patriot Act واستراتيجية الأمن القومي 2002. يعتبر قانون باتريوت هجوما تشريعيا على الدستور الأمريكي وافق عليه الكونغرس الأمريكي دون رؤيته أو قراءته حسب رواية بعض أعضاء الكونغرس أنفسهم. أما استراتجية الأمن القومي فقد ابتدعت المفهوم الذي بات حديث الأوساط السياسية ألا وهو الحرب الاستباقية. وكلتا الوثيقتين تم السكوت عنهما من قبل القضاء الأمريكي بواسطة الرجل الذي يدعوه (بارنيت) "صاحب المهمات الصعبة" الذي يمتلك الإجابا الصحيحة والذي استقال مؤخرا وهو (جون آشكروفت) وزير العدل. لقد تم تسليحه بصلاحيات كبيرة من الإدارة وبقوة قانونية غير عادية التي أصابت العديد من المواطنين وهددت حقوقهم المدنية الأساسية.

يقدم الكاتب نفسه، في جميع فصول الكتاب، على أنه المتفائل والكاثوليكي الجيد والمفكر الحيادي والاستراتيجي العسكري الجاد. فكيف يفهم هذا المؤلف التفاؤل والحيادية؟ وكيف يفهم الكاثوليكية الجيدة والجدية في التخطيط والتحليل؟ إن وصفته العلاجية ذات الصبغة الأمريكية الاستيعابية باستخدام القوة العسكرية الغاشمة للقضاء على دول وبناء دول لإحلال النسخة الأمريكية من القوانين الاجتماعية والدينية والاقتصادية والثقافية إلى نهاية التاريخ ليس بالتأكيد سببا يدعو إلى التفاؤل. ورفض الكاتب لأخلاقيات بعض رجال الدين أمثال أوجستين وأكيناس وبالتأكيد أخلاقيات البابا في الفاتيكان الذي ما فتئ يعارض شن الحروب وينادي بالسلام لا يجعل منه كاثوليكيا جيدا. إن وجود المحافظين الجدد في البنتاغون والإدارة الأمريكية الذين يتبنون نفس الاستراتيجية يدحض ادعاءه بأنه يفكر بحيادية وخارج إطار البنتاغون.

من الواضح أن كثيرا من أفكار (بارنيت) أخذت على محمل الجد. فما حدث ويحدث في العراق مزيج من هذه الأفكار رغم التناقضات العجيبة الغريبة التي تكتنفها. إن بارنيت يصمم على أن الحواجز يجب أن تزال في جميع أنحاء العالم وأنه يجب أن يحدث الاتصال والاندماج. يمضي في هذا الأمر في كثير من صفحات الكتاب ليوضح أنه يكره التجزئة والتقسيم ولكنه في حالة "إسرائيل" يؤيد بناء جدار الفصل العنصري الذي يصادر الأرض الفلسطينية ويشرد أهلها. وهذا مناقض لنصيحته لأمريكا ودول الصفوة المتحالفة معها بأن تبقي على استمرار التواصل بين دول الفجوة تلك والدول المتماسكة المتآلفة. فإن الاكتظاظ السكاني والأداء السيئ لاقتصاديات تلك الدول (دول الفجوة) سيؤدي إلى انفجار الوضع الذي سيؤثر بدوره على بقية دول العالم.

وأخيرا تحدث بارنيت عن السوق العسكري والأمني التي تتطلب خبرة في قضايا الأمن وعلم السياسة والاقتصاد. إنه يعرف الكثير عن السوق العسكري والأمني بحكم عمله في البنتاغون ولأن أفكاره لا تتطلب ذكاء خارقا ولكنه يفتقر للكثير من الشأن السياسي والاقتصادي. فنراه يتحدث عن النقص في الترابط في دول الفجوة حتى وهو يسترسل في الحديث عن بلايين الدولارات التي يرسلها العمال المهاجرون إلى دولهم. يكتب بكل جهل عن نظام الحوالة البنكية في بوليفيا البلد المقفل الذي ليس له شواطئ أنها تعمل في مجال النقل البحري ورفع الأعلام على السفن ويتحدث أيضا عن دول صغيرة وكبيرة تتوحد معا في معارضة الولايات المتحدة الامريكية ليكون لها القرارات المستقلة في منظمة التجارة العالمية. فأفكاره المهزوزة عن الاقتصاد وعن عمل الأسواق (في الدول والأفراد) تحط من قيمة عمله وأفكاره كلها. وبالتالي فوصفته لا معنى لها لعالم أكثر أمنا في المستقبل. إن وصفته العلاجية ليست أفضل من المرض نفسه التي تسببت وستتسبب في مصادرة الحريات داخل أمريكا وخارجها وستسبب في سفك الدماء في كل مكان.

وبإيجاز شديد، إذا أخذ العالم بنصيحة بارنيت هذا حول الأمن العالمي والمحلي (وهو ما عليه الحال الآن في الإدارة الأمريكية) سنصل بدون أدنى شك إلى نهاية عنيفة للنظام العالمي ليس في دول الفجوة أو دول الشر أو الدول المارقة كما يتوقع هو ولكن في جميع أنحاء العالم دون استثناء وستكون حربا لا نهاية لها. وهذا ما يظهر عليه العالم الآن.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية