أنا من عشاق قراءة التاريخ والحديث منه بصفة خاصة. لكن المؤرخين دأبوا على سرد وقائعه كمن يكدّس بضاعة في مخزن أو مجلدات في مكتبة. فهم على الأغلب يهتمّون بإبراز الحوادث الكبيرة كالحروب وسير الملوك وتغيير أنظمة الحكم وحدود الممالك. والقليل منهم كلف نفسه بالتعرض لحياة الناس الاجتماعية وتأثير الأحداث عليها، وعواطف الشعب وثقافته وعاداته والتزامه الديني.
لذلك سرعان ما هربت لقراءة السير والمذكرات حيث أنها تسهب في سرد الأحداث، وتتروى في شرح المشاعر الإنسانية، وتحيطنا بتفاصيل البيئة. وأقبلت على الارتشاف من هذه المؤلفات ولكنها أيضا لم تمنع الملل من التسرب إلى نفسي.
إلى أن طالعتني الكتب التي تمزج التاريخ بالسياسة والفكر كأمثال كتابات نعوم تشومسكي ويواخيم فرناو وكارل هاينتس دِشنر وتزفيتان تودوروف ومنير العكش، فوجدت دافعاً جديداً لاستئناف القراءة التاريخية حيث أنها تربط الماضي بالحاضر وترينا الجذور التاريخية للأعمال الهمجية الأمريكية.
رواية يمنى وأسلوبها:
لكن رواية يمنى لسمير عطا الله والتي تمزج التاريخ بالأدب كانت نسيجاً منفرداً وبضاعة جديدة. وهي محاولة روائية ناجحة لسرد الأحداث الكبرى عشية استقلال لبنان ولمدة ربع قرن تلاه فيما سماه المؤلف "زمن لبنان الجميل".
ولا يمكن أن تقارن هذه الرواية بروايات جورجي زيدان. فالمؤلف هنا حريص على الأمانة التاريخية فقد استند إلى مجموعة كبرى من المراجع، وأغناها بالتفاصيل عن تلك الأيام، منها مذكرات مود فرج الله –وهي سيدة مجتمع تعاطت السياسة وتقربت من البريطانيين- ومذكرات المفوض السامي البريطاني الجنرال سبيرز. وهو كذلك حريص على الأسلوب الأدبي حيث تلمس بسهولة اللغة السهلة الأنيقة لكاتب متمرس مثقف نهل الكثير من الأدبين العربي والفرنسي.
فقد جسد لبنان في شخص سيدة صالون مسيحية، مثقفة، جميلة ومحافظة من بيروت. وجعلها من مواليد عام 1900م لتكون في قمة نضجها حين تحرك لبنان لنيل استقلاله عام م1942. واختار لها أن تموت عام 1968 يوم أن انتهكت إسرائيل سيادة لبنان وضربت له عشر طائرات مدنية رابضة على أرض مطار بيروت ليعلن نهاية " زمن لبنان الجميل".
ويقول المؤلف عن يمنى: " (يمنى) لا تشبه بطلة بيير بنوا في روايته (سيدة قصر لبنان)، بل هي بالأحرى نقيضها، إنها ليست امرأة تمثل الانتداب الفرنسي وفرنسا، بل تمثل لبنان والاستقلال. وفي ذلك الإطار الزمني الجميل تبحث الرواية من خلال (يمنى) عن المشهد السياسي والمشهد الوطني، وتحاول أن تقدم للذين ولدوا في الاستقلال، أو للذين ولدوا في أي عام، من جمالات لبنان وعذاباته شيئاً من تلك الحقبة الجميلة التي حلّت عليها النهاية الدرامية السوداء يوم أحرقت إسرائيل الطائرات المدنية الرابضة في مطار بيروت بينما لبنان يستعد للاحتفال بوصول العام الجديد.
ويصف روايته وأسلوبه بقوله: " ليست (يمنى) محاولة تاريخية، إنها محاولة روائية تعتمد على لعبة النص فيما سماه عبد الله العلايلي: (المألفة) أي دمج المراحل والأسماء والأدوار من أجل جمالية النص، ونأمل أن تُقرأ وتُعامل في هذا الإطار".
ملخص الرواية:
والرواية في مجملها وصف دقيق وشامل لعدد مختار من المحطات الهامة في تاريخ لبنان. يتوسع المؤلف في وصفها حتى لكأنك تشاهد تقريراً تلفزيونياً مصوراً بعدسة فنان لا تغيب عنها أدق التفاصيل كالملابس والمفروشات وحركات الأيدي وتعبيرات الوجوه وخلجات النفس ونبرات الصوت. إضافة لوصف المكان والجو المحيط وحركة السير في الشارع وهدوئه أو ضوضائه.
هذه المحطات تشمل اللقاءات بين السياسيين اللبنانيين عامي 1942 و1943 وبخاصة رياض بك الصلح بطل الاستقلال اللبناني الذي كان يمثل نبض العروبة وجرأة الثورة في لبنان والذي كان يريد جمع كل اللبنانيين معه لنيل الاستقلال في ذلك الوقت بالذات مستغلاً المواجهة بين المستعمرين الفرنسيين أنفسهم المنقسمين بين الجنرال ديغول والماريشال بيتان، والعلاقة المتأزمة بين ديغول والحكومة البريطانية.
وقد طوفت بنا هذه اللقاءات بين الزعماء المسيحيين في لبنان لترينا وجهة نظرهم من الاستقلال. كما شرحت بشكل مفصل الدور الكبير الذي كان يلعبه المفوض السامي البريطاني في لبنان الجنرال إدوارد سبيرز.
وقد أخذنا الكاتب في رحلة سرية لرياض الصلح وبشارة الخوري إلى مصر لطلب الدعم من مصطفى النحاس باشا حيث لعب بالفعل دوراً في استقلال لبنان.
وتصل بنا ذروة الأحداث يوم أن أمر المندوب السامي الفرنسي باعتقال رياض الصلح وبشارة الخوري في قلعة راشيا التاريخية، حيث واجها هذا الاعتقال برجولة وشجاعة. لكن ديغول سرعان ما أرسل مساعده الأول الجنرال كاترو لاسترضائهما بأي ثمن كان حتى لا تندلع الثورة وتخرج فرنسا من لبنان بقوة السلاح مما سيؤثر على وضعها في بقية المستعمرات.
ثم يتوقف الكاتب عند يوم مقتل رياض الصلح في الأردن. ثم تكون له وقفات أخرى عشية حرب السويس وحرب عام 1967 ووقفة أخيرة يوم انتهكت إسرائيل سيادة لبنان وأحرقت طائراته المدنية على أرض مكار بيروت.
نص مقتطف من الرواية:
"جلستا – يمنى وأمها- على الشرفة المطلة على ساحة القرية ... وراحت تتأمل طفولتها مسترجعة الأشياء التي لا تعود، التي تستعاد ولا تعود، وسمعت صوت أجراس رتيبة تقترب، فانحت تتطلع، فإذا به الراعي والقطيع، لا يتغير فيه شيء، يشبك عصاه الصغيرة خلف عنقه بيديه الاثنتين، ويترك للقطيع أن يعثر على طريقه المتعرجة، البطيئة، عبر حفاف الحقول ومجانبات العشب... . قطيع آخر بدا أمام يمنى، بيداً في الساحة الصغيرة، الأولاد بمرايلهم السوداء، يقفون صفاً واحداً أمام المدرسة. حربان عالميتان الآن، وهي (يُمنى) بعد في الثانية والأربعين، على هذه الشرفة كانت ترقب الأولاد يدخلون المدرسة. في الحرب الأولى، كانوا أقل عدداً وأكثر فقراُ وبلا مرايل سوداء، كانوا يرتدون "قنابيز" بسيطة، ولا شيء تحتها، وكانوا ناحلين، ساهمين، يكادون لا يلعبون في ساحة اللعب، هذا جيل آخر الأن، وهذه حرب عالمية أخرى، وهذا بلد صغير، يمر به المهزومون والمنتصرون، ويهلل للجميع".
تعليق:
كما استمتع المفوض السامي البريطاني الجنرال سبيرز بإدارة شؤون المشرق العربي ببيروت بأناقته المفرطة ولغته الفرنسية الارستقراطية متمتعاً بهدوئه وتلاعبه بالفرنسيين والساسة اللبنانيين معاً، كذلك استمتع المؤلف الأستاذ سمير عطا الله بتصوير هذه التقارير التلفزيونية عن زمن لبنان الجميل بتأنٍ وتروٍ وبأسلوب رشيق ووصف دقيق دون أن تفقد روايته حبكتها وتناسقها لدرجة أنه جعلنا نبكي لموت (يمنى) ونحن نعرف سلفاً أنها شخصية افتراضية من بنات خياله.
وإذا كنا نعتب على الكاتب أنه لم يزود كتابه بصور أو تعريف لزعماء تلك الفترة ليقربهم للقراء الشباب اللذين لم يعاصروا تلك الأحداث وليسوا على صلة بتاريخ لبنان، فإنه لا بد لنا من الإشادة بحياده وموضوعيته بحيث جعل -وهو المسيحي- لاستقلال لبنان بطلاً وحيداً هو الزعيم المسلم رياض الصلح.
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الكتاب: يُمنى (رواية).
الناشر: العبيكان للنشر – الطبعة الأولى 2008
المؤلف: سمير عطا الله - كاتب لبناني، ولــد في بيروت العــام 1941 يكتب في جريدة النهار. عرف بأنه يمــزج السياســة بالأدب والثقافــة بالحــدث. يكتــب زاويــة يوميــة في "الشـــرق الأوســـط" منذ 1987. له عشــر مؤلفــات في التــاريخ والروايــة والسفــــر. عــاد إلى لبنــان منـذ عامين بعد ربــع قــرن في كنـــدا وباريـــس ولنـــدن.