ولن أتحدث عن الصعوبات والمشاق التي واجهتها في سبيل الوصول إلى الكتاب، فتلك المتاعب –اليسيرة- التي واجهتها لا تعد شيئاً أمام القيمة الأدبية والتاريخية للكتاب وأمام السعادة التي ظفرت بها عند الحصول عليه. وسأحاول في السطور التالية التعريف بهذا الكتاب وبيان القيمة الأدبية والتاريخية التي يمثلها.
المختار من الشعر الحديث:الكتاب هو الإصدار (أو التقويم) الشعري الثاني الذي أصدره المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في مصر (أو الإقليم الجنوبي) كما كان يُعرف آنذاك (1959م) إبان الوحدة بين مصر وسوريا. وقد تولى مراجعته وضبطه وتفسيره الأديب علي أحمد باكثير العضو بلجنة الشعر – كما وقع تحت اسمه.
وقد قدم باكثير للكتاب بمقدمة مختصرة –في صفحة وربع الصفحة- بيَّن فيها أن هذا التقويم الثاني هو "كسابقه من حيث اشتماله على طائفة صالحة من الشعر الحديث الجدير بالتقدير والالتفات من نظم واحد وثلاثين شاعراً من مختلف الأقطار العربية، ومن حيث أنه لا يستوعب كل ما نظمه الشعراء المحدثون في البلاد العربية خلال العام المنصرم وإنما هو المختار من الشعر الذي تفضل ناظموه مشكورين فأرسلوه إلى لجنة الشعر بالمجلس، ملبين بذلك الدعوة التي أعلنها المجلس إلى حضرات الشعراء في الأقطار العربية ليشتركوا في هذا التقويم الشعري بالمختار من قصائدهم ومقطوعاتهم"([1])
.ومن خلال هذه المقدمة نعلم أن هذه القصائد هي مختارات اختارتها لجنة الشعر في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية من مجموعة من القصائد التي تقدم بها ناظموها تلبية لدعوة المجلس، وأنها تمثل البلاد العربية التي شارك شعراؤها في تلبية الدعوة. ولذلك فلا عجب أن لا نجد شعراء من بلاد المغرب العربي ودول الخليج والعراق. إذ نجد أن الشعراء المشاركين هم من مصر (12 شاعراً) وبلاد الشام (سوريا والأردن وفلسطين) (5 شعراء) واليمن (أربعة شعراء)، وهناك عشرة شعراء لم يترجم لهم ولكنهم لن يعدوا هذه البلدان المذكورة في غالب الظن. ولم تقتصر المشاركة على الشعراء المقيمين في البلاد العربية بل لقد شارك شعراء المهجر أيضاً حيث نجد قصيدة للشاعر عفيفي محمود بعنوان "الغريب"([2]) بعث بها من ميونخ، حيث كان مسافراً للتخصص، كما ورد في ترجمته. واللافت للنظر هو أن الشعراء حينما كتبوا سيرهم الذاتية كانوا ينسبون أنفسهم إلى مدنهم وقراهم وليس إلى دولهم. فنجد مثلاً من يكتب أنه مولود في الإسكندرية أو طرطوس أو عنس أو غيرها دون ذكر للدولة، مما يدل على إحساس الشعراء آنذاك بأن الوطن العربي كله وطن واحد. وكذلك لم تتم الإشارة إلى جنسيات الشعراء في الصفحة المخصصة للقصيدة وإنما يكتب فقط اسم الشاعر، باستثناء شاعر واحد هو أبو سلمى الذي تم توقيع قصيدته الأولى بعبارة: "للشاعر الفلسطيني"، ويبدو أن ذلك لخصوصية فلسطين أو لأن الشاعر غير مترجم له في الكتاب. والملاحظة الأخرى الجديرة بالاهتمام هي وجود شاعرة واحدة فقط ( الشاعرة جليلة فؤاد رضا من مصر) إلى جوار ثلاثين شاعراً، وقد كانت قصيدتاها في قسم "الشعر الوجداني"، وكانت أولاهما وعنوانها: "تكلم" أول قصيدة في القسم([3]).
والثانية بعنوان: "ضعف المرأة"([4]).وهناك من الشعراء من له أكثر من قصيدة، فنجد للشاعر العزي مصوعي –من اليمن- خمس قصائد، وأربع قصائد للشاعر محمد علي أحمد –من مصر- وثلاث قصائد لكل من نزار قباني –من سوريا- وعبد العليم القباني ومصطفى عبد الرحمن –غير مترجم لهما-، ثم قصيدتين لأحد عشر شاعراً وقصيدة واحدة للبقية. وقد تم ترتيب القصائد حسب موضوعها، فالقسم الأول يحوي "الشعر الديني" وفيه قصيدة واحدة فقط للشاعر محمود جبر بعنوان: "قرة عين الوجود"، يليه "الشعر القومي" ويحوي تسع عشرة قصيدة، ثم الشعر الوصفي وفيه عشر قصائد، ثم "الشعر الوجداني" ويحوي خمساً وعشرين قصيدة. أما ترتيب القصائد ضمن كل قسم فيبدو أنه بحسب جودتها الفنية أو تنويعاً في موضوعاتها، إذ إننا لا نجد قصائد الشاعر الواحد متتالية حتى لو كانت في نفس القسم. فنجد مثلاً أن هناك قصيدتين للشاعر نزار قباني في قسم "الشعر الوجداني"، الأولى بعنوان: "تفتا" وكان ترتيبها الثانية ضمن قصائد القسم، والثانية بعنوان: "إلى ميتة" وكان ترتيبها السابع عشر. أما قصيدة نزار الثالثة "جميلة بوحيرد" فكانت في قسم "الشعر القومي". كذلك لا نجد القصائد التي تتناول موضوعاً واحداً مثل فلسطين أوالجزائر –في الشعر القومي- متتاليات. وقد وردت ترجمة الشعراء في نهاية الكتاب مرتبة حسب ترتيب ورود أسمائهم في الكتاب.وبإلقاء نظرة على أسماء الشعراء التي وردت في الكتاب نجد أن بعضها أصبح معروفاً فيما بعد مثل كل من نزار قباني ومحمد التهامي وعبد الله البردوني وحسن فتح الباب وعبد المنعم عواد يوسف وإبراهيم الحضراني وأبو سلمى، ومنهم من لم يُعرف ولم يشتهر بعد ذلك. وهناك ثلاثة شعراء اختاروا أن لا يصرحوا بأسمائهم الحقيقية واكتفوا بلقب أو كنية وهم: الشاعر أبو سلمى والشاعر الأفغاني والشاعر ابن محمود. أما أبو سلمى فقد اشتهر بهذه الكنية بعد ذلك، وأما الأفغاني وابن محمود فلا نعلم عنهما شيئاً.القيمة الأدبية للكتاب:إن قصائد الكتاب تمثل مادة خصبة لدراسة شعر تلك الحقبة من الناحية الفنية ومن ناحية الموضوعات، إذ نجد قصائد عن الجهاد في فلسطين والجزائر، وتحية الجمهورية العربية المتحدة، وغيرها من الموضوعات التي تشكل مادة مهمة للدراسات الأدبية التي تهتم بهذا الجانب. ومن الناحية الفنية نجد أن القصائد قد غلب عليها الشعر العمودي المقفى مع وجود خمسة نماذج من الشعر الحر، ثلاث للشاعر نزار قباني هي: "جميلة بوحيرد"([5])، و"تفتا"([6])، و"إلى ميتة"([7])، وقصيدتين للشاعر العزي مصوَّعي هما: "نهاية الطغاة"([8])، و"الغريب"([9]).ونجد القصائد العمودية أيضاً متفاوتة الأسلوب، فمنها ما يمتاز بالجزالة والنفس الطويل ووحدة القافية، كما هو الحال في قصيدة الشاعر بدر الدين الحامد التي بعنوان: "تحية الجمهورية العربية المتحدة في مولدها"، ومطلعها([10]):رويدك لاح الصبحُ وانتظم الركبُ فلا تسأل الأيام عمَّا جنى الخطبُوقد بلغت ستين بيتاً، وتمتاز بالرصانة والجزالة، وغلبة ألفاظ المعجم القديم عليها، كقوله([11]):وها أنتمُ في الساح تُحيون مجدَنا وتعدو بنا فخراً مذاكيكـمُ القُـبُّوقد شرح باكثير مفرداتها في الهامش بقوله: "المذاكي: جمع المذكى وهو ما كملت قوته من الخيل والقب جمع أقب وهو الضامر".ومنها ما يمتاز بسهولة الألفاظ والتنويع في القوافي وعدد التفعيلات كقصيدة الشاعر عفيفي محمود التي عنوانها: "الغريب"، ومطلعها([12]):
ما زال الشوق يناديني وجنون اللهفة يطويني |
آهٍ من شوقي المجنونِ وتحفز قلبي المسجونِ |
في دنيا الغربة تجتاح النفسَ مشاعرْ |
وتزلزل روحي هزات الوجد الثائرْ |
أبداً ستعاودني الذكرى وتلاحقني صوراً شتّى |
ومن ناحية أخرى يُعد هذا الكتاب مرجعاً أساسياً لدراسة أدب وفكر الأديب علي أحمد باكثير، وهذا ما سنتناوله في السطور التالية.عمل باكثير في الكتاب:ليس من غرضنا هنا دراسة قصائد الكتاب من الناحية الفنية والموضوعية، فلذلك مجال آخر، ولكننا سنكتفي هنا بالإشارة إلى عمل باكثير في هذا الكتاب، وأثر ثقافته وفكره في ذلك.أما اختيار قصائد الكتاب فلا نعلم إن كان من عمل باكثير وحده أم أن جميع أعضاء اللجنة قد اشتركوا في ذلك، وهذا هو الأرجح، فمن غير المحتمل أن توكل هذه المهمة إلى فرد واحد في اللجنة.
ولكن من المؤكد على كل حال أن باكثير قد وافق على هذه المختارات وأنه راضٍ عنها، فهي –من هذا الجانب- تُعد من مختاراته. ولا نعلم أيضاً إن كان ترتيب القصائد من وضع باكثير أم مما اتفقت عليه اللجنة، وإن كنا نرجح الاحتمال الأول. ومن المؤكد أن باكثير قد تولى "مراجعته وضبطه وتفسيره" كما ورد على غلاف الكتاب. وسنحاول في السطور التالية تتبع مراجعة باكثير لقصائد الديوان وتعليقاته عليها، للتعرف على أثر عمله هذا في حسن إخراج الكتاب.يمكن القول أن تعليقات وتصحيحات باكثير تندرج تحت ثلاثة محاور: المحور الأول هو التصحيح اللغوي، أي تصحيح الأخطاء الشائعة في استخدام بعض الألفاظ أو في استخدام بعض حروف الجر، والثاني هو التصحيح النقدي بمعنى استبدال كلمة بأخرى لأسباب فنية نقدية، والأخير هو التصحيح العروضي ونعني به تغيير بعض الكلمات ليستقيم الوزن. التصويبات اللغوية:شغلت التصويبات اللغوية حيزاً كبيراً من عمل باكثير مما يدل على تمكنه من ناصية اللغة، ودقة ملاحظته. فمن ذلك مثلاً تصحيحه بيتاً للشاعر عبد المنعم عواد بعنوان: "عندما يموت البطل"، ليصبح كالتالي([13]):
إننا كنـا غرسنـاه معـاً فـي ذات مـرَّه |
فقد ذكر باكثير في الهامش أن عبارة (معاً في) كانت في الأصل: سوياً، وعلَّق على ذلك بقوله: "وهو خطأ شائع". ومعنى "سوياً" أي مستوياً تاماً، كما في قوله تعالى مخبراً عن جبريل عندما تمثل للسيدة مريم في صورة بشر: "فأرسلنا إليها روحَنا فتمثَّل لها بشراً سويّاً"([14]).وقد تكررت لفظة "سوياً" مرة أخرى في قصيدة "ليلة مايو"([15]) للشاعر عبد الجليل ناصر وهي صياغة شعرية لقصيدة للشاعر الفرنسي دي موسيه، فصوبَّها باكثير لتصبح:هيا لنرحل من هنا نسعى ونمضي وحدنافقد ذكر باكثير في الهامش أن عبارة (نسعى ونمضي) كانت في الأصل: نسعى سوياً، ولم يذكر السبب حيث سبق أن أورده من قبل.كما صحَّ باكثير خطأً آخر في نفس القصيدة، ليصبح البيت هكذا([16]):لما لمستُك بالجناح تساقطت منك الدموع !!وشحبت فاحتضنتك أحشائي وصُنتك في الضلوع !!فقد ذكر باكثير في الهامش أن "فاحتضنتك أحشائي" كانت في الأصل: "فاستلقتك أحضاني". ولم يذكر باكثير مكمن الخطأ، وهو أن "استلقى" تعني: اضطجع وتمدد، وليس ما أراده الشاعر وهو: "تلقَّتك أحضاني"، ولكن الوزن يختل لو ردت الكلمة إلى صحَّتها، فغيَّر باكثير في صياغة البيت ليستقيم الوزن والمعنى.ومن الأخطاء اللغوية أيضاً ما ورد في قصيدة الشاعر عبد العليم القباني "القمر الجديد"([17])، إذ يغير باكثير كلمة (ألهيَّة) إلى تلهية ليصبح البيت:
رأى الصواريخ قبل اليوم تلهيـةً للشعب تضحك في لألائها الخُدَعُ |
فقد ذكر باكثير في الهامش أن كلمة (تلهية) كانت "في الأصل: ألهيَّة بتشديد الياء"، ولم يذكر سبب تغييرها وكأنه يرى أن ذلك خطأ واضح لا يحتاج إلى بيان. ولا توجد في المعاجم العربية كلمة "ألهية"، وأقرب كلمة للمعنى الذي أراده الشاعر هي "تلهية" التي أحسن باكثير اختيارها إذ تؤدي المعنى المراد وهي فصيحة.وفي قصيدة "تفتا" للشاعر نزار قباني([18])، يعدِّل باكثير حرف الجر (فيه) إلى (عنه) ليصبح هكذا:أمس انتهى .. لم تدر والدتيعنه ولم أخبر رفيقاتيويذكر باكثير في الهامش أن حرف الجر (عنه) كان "في الأصل: فيه". وحرف الجر (في) يتردد كثيراً في شعر نزار نائباً عن حروف جر أخرى، فنراه في السطر السابق ينوب عن حرف (عن)، وفي بعض قصائده الأخرى قد ينوب عن حرف (الباء) كما في قوله في قصيدة "لوليتا"([19]):ربما من سنتينلم تكن تهتم في وجهي المدوروقوله في نفس القصيدة:لم أعد أقنع في قطعة سكرأو قد ينوب عن حرف الجر "من"، كما في قوله في نفس القصيدة:أنت بعد اليوم لن تخجل فيّفلقد أصبحتُ أطولولا يمكن أن يرد ذلك إلى أن نزاراً استخدم حرف (في) بدل حرفٍ آخر ليستقيم الوزن، بدليل أنه في المثال الذي صححه باكثير، لم يختل الوزن بوضع كلمة (عنه) بدل (فيه). والذي أراه هو أنها من خصوصيات نزار إذ إن لبعض الشعراء ألفاظاً خاصة تكون بمثابة "اللازمة" لهم يكثرون من تكرارها في أشعارهم، من ذلك مثلاً لفظة: (قم) في شعر أحمد شوقي التي كان يكثر منها خاصة في مطالعه، كما في قوله([20]):
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
وقوله([21]):قُم ناجِ جِلَّقَ وَاِنشُد رَسمَ مَن بانوا مَشَت عَلى الرَسمِ أَحداثٌ وَأَزمانُو
قوله في رثاء الإمام محمد عبده([22]):
مفسـرَ آي الله بالأمـس بيننـا قم اليوم فسِّر للورى آية الموتِ
لا تقتصر تصويبات باكثير اللغوية على الأخطاء الشائعة، بل نراه يصحح الأخطاء النحوية الدقيقة التي قد تستغلق على غير المتمكنين من النحو. فمن ذلك ما ورد في قصيدة "ليلة مايو"([23]) للشاعر عبد الجليل ناصر:حان الوداع فهل ستذرف عند ترحالي الدموع؟
فقد غيَّر باكثير في البيت –كما أشار في الهامش- ليصبح:حان الوداع تُرى أتذرف عند ترحالي الدموع؟ولم يبيِّن لنا باكثير سبب التغيير لأنه –في رأيه- أوضح من أن يذكر، ذلك أن النحاة لا يجيزون دخول السين على الفعل المضارع بعد (هل) الاستفهامية، لأن دخول (هل) على الفعل المضارع تخصصه بالاستقبال([24]) فلا داعي إذاً لدخول (السين) أو (سوف) عليه.وكذلك صحَّح باكثير قول الشاعر محمود عفيفي في قصيدة "الغريب"، ليصبح هكذا([25]):
عاشت أجيال العـهد البائد منسيّة يا ليت أعود .. وأملأ منها عينيّه
فقد ذكر باكثير في الهامش أن "يا ليت أعود" كانت في الأصل: "فمتى سأعود"، ومرة أخرى لا يذكر مكمن الخطأ، وهو أن (متى) تدل على الاستقبال فامتنع لذلك دخول (السين) و(سوف) عليها. ومثله قوله في نفس القصيدة([26]):فمتى أشهد نهر الكوثر؟ وأمتَّع بالحج الأكبرْفقد ذكر باكثير في الهامش أنها كانت في الأصل: "فمتى سأرى نهر الكوثر".التصويبات النقدية:لباكثير لفتات نقدية بارعة تدل على عمق فهمه للشعر وحسن استعماله للغة وفقهه لمعانيها.
من ذلك مثلاً تغييره لكلمة في قصيدة الشاعر محمد التهامي في قوله من قصيدة "السلام والربيع"([27]) ليصبح البيت هكذا:
أينمـا قلَّبـتُ عينـاً تنبهـرْ بالجمال الفذِّ والحسن المجسَّمْ
إذ ذكر باكثير في الهامش أن كلمة (تنبهر) كانت "في الأصل تلتقي"، ولم يبين سبب التغيير. وإذا قارنا بين المعنى الذي توحي به كل من لفظة (تنبهر) ولفظة (تلتقي)، سنجد أن (تنبهر) توحي بانفعال الشاعر وإحساسه بهذا الجمال الفذ وهذا الحسن المجسَّم وتفاعله معه وتأثيره فيه، بينما كلمة (تلتقي) لا توحي بأي من هذه المعاني، وإنما تلتقي بها في بلادة وسذاجة، والشاعر بالطبع لم يقصد إلا المعنى الأول بدليل وصفه لهذا الجمال بالفذ وللحسن بالمجسم، ولكن خانه التعبير فصوّب له باكثير تعبيره بحس الناقد ورهافة الشاعر وفطانة اللغوي. ومن فطانته اللغوية أيضاً تصويبه لما ورد في قصيدة الشاعر إبراهيم عبد الحميد عيسى "زواج شاعر"([28]) ليصبح هكذا:
فقالت وقد قطَّبت وانبرت فألقت بشعريَ في ناحيه
فقد ذكر باكثير في الهامش أن البيت كان في الأصل:
فقالت وقد قطَّبت وجهها وألقت بشعريَ في ناحيه
ونرى أن باكثير حذف كلمة (وجهها) وهذا من رهافة حسه النقدي وفقهه باللغة، إذ التقطيب لا يكون إلا في الوجه، فإضافة التقطيب إلى الوجه هو من فضول القول. وقد عاب النقاد قديماً على الشاعر الذي قال([29]):
ذكرتُ أخي فعاودنـي صداعُ الرأسِ والوصبُ |
إذ لا يكون الصداع إلا في الرأس، فذكر الرأس حشو لا فائدة منه.ومن تصويباته النقدية أيضاً استبداله لفظة "خيالاتي" بلفظة "حكاياكِ" في قصيدة "إلى ميتة" للشاعر نزار قباني، ليصبح هكذا([30]):
ما الذي حرّرني؟من خيالاتي القديمهْ من قضاياكِ السقيمهْ
فقد ذكر باكثير في الهامش أن كلمة (خيالاتي) كانت في الأصل: من حكاياك، ولم يبين سبب التغيير. وإذا رجعنا إلى المعاجم العربية سنجد أن (حكاية) تُجمع على (حكايات)، ولذا غيَّرها باكثير. ولو ردَّها إلى الصِحَّة (حكاياتكِ) لاختل الوزن، لذا استبدل بها كلمة (خيالاتي) وفيها من الدلالة ما يتناسب مع الحكايات من حيث اعتمادها على الخيال.التصويبات العروضية:كان باكثير متمكناً من علم العروض، يدل على ذلك مسرحيته الشعرية الأولى (إخناتون ونفرتيتي) التي كتبها بالشعر المرسل -كما أسماه- أو الشعر الحر كما صار يعرف بعد ذلك، وليس هنا مجال الإفاضة في هذا الموضوع. ونلحظ تمكنه من خلال ملاحظاته العروضية ودقتها، ففي قصيدة الشاعرة جليلة رضا التي عنوانها: "ضعف المرأة"، تنبه باكثير لخلل عروضي غفلت عنه الشاعرة مع تمكنها من النظم، وقد لا ينتبه له كثير من القراء، فصحَّحه باكثير ليصبح البيت هكذا([31]):
أنت لي مهما تناسيت ليالينـا الغوالـي |
رغم هذا الزهو والخَيْلةَ لي رغم التعالي |
فقد ذكر باكثير في الهامش أن كلمة (الخيلة) كانت "في الأصل الخُيَلاء ولا يستقيم به الوزن فوضعنا الخَيْلة مكان الخيلاء واللفظان بمعنى واحد". وهذا يدل على تمكن باكثير من علم العروض ومن علم اللغة حيث استطاع بسهولة أن يغير كلمة بكلمة من نفس الجذر اللغوي تؤدي نفس المعنى وتحل مشكلة الخلل العروضي. خاتمةوهكذا نرى أن هذا الكتاب يُعد مهماً للباحثين والدارسين في أدب باكثير لأنه يعينهم على معرفة عمق ثقافته وتمكنه اللغوي. كما يلقي الضوء على إسهامات باكثير في خدمة الأدب العربي من خلال عمله في لجنة الشعر. وقد سبق لباكثير أن حقق ديوان صالح الشرنوبي وشرحه واختار ما يصلح منه للنشر وقدم له بمقدمة نقدية ضافية، ونشرته لجنة الشعر ضمن سلسلة الألف كتاب.