بعد أن قطعت الشعرية العربية شوطا مهما،من خلال مرحلتين حاسمتين، تمثلت الأولى في جمع الشعر وتدوينه،وهو ما اصطلح عليه بعض النقاد ، (بالنقد التسجيلي) الذي روعيت فيه بعض المعايير،التي اشترطها أهل العلم واللغة،كونهم كانوا يهدفون إلى غاية عظمى ومشروع كبير في زمانهم ،ألا وهو حفظ اللغة العربية،وتلقفها من الذاكرة العربية البدوية التي بقيت كالنبع الصافي، والمورد العذب،وذلك بنقلها من الشفهية إلى الكتابة.
أما المرحلة الثانية، فكانت مرحلة التنظير،أو(النقد التنظيري) الذي أزمع أهل الاختصاص من خلاله إلى استنباط الأحكام والمعايير،التي على المبدع الناشئ أن يحذو حذوها،حتى لا يشذ عن تقاليد السلف،أو يشتط عنها،وهي تلك المعايير التي انتقلت من ناقد إلى ناقد،آخذة في التطور،لتتبلور عند آخر مطافها في مقومات عمود الشعر كما عرفت عند المرزوقي، بعد أن مرت على محطات نقدية هامة ومؤثرة، مرورا بالأصمعي،وابن المعتز،وبن قتيبة،وابن طباطبا، والجاحظ.
كما مرت على محطّة لا تقل أهمية عن سالفاتها، ألا وهي محطة(النقد التطبيقي) التي يمكن القول أن الشعرية العربية عرفت شذرات منه،على يد محمد بن سلام الجمحي في مؤلفه (طبقات فحول الشعراء)،حيث يبدو أنه لم يصل إلى طبقات الفحول التي أتقن رصفها أيما إتقان، إلا بعدما قام بتكثيف المقايسات والموازنات،والمحاكمات فيما بين النصوص الشعرية من جهة،والشعراء من جهة أخرى،وإن أقدم على ذلك –وهذا هو الأرجح في نظرنا- يكون قد مارس النقد التطبيقي من بابه الواسع، إذ لا يمكنه سوى عن طريقه أن يهتدي إلى ما اهتدى إليه، من المفاضلة بين الشعراء، بعد فحص وتمحيص للنصوص الشعرية.
1-1 مظاهر النقد التطبيقي في الموازنة.
رغم الذي سبق وأن ذكرناه، إلا أن مظاهر النقد التطبيقي لم تظهر جليا وبوضوح إلا بعد أن أعطت دفعا قويا للشعرية العربية، وذلك على يد أبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي (ت370هـ)،في كتابه: الموازنة، الذي اعتنى فيه ببعض المسائل النحوية، أو اللغوية،و النظر في صحة معنى ما بالقياس إلى الواقع تارة، أو بالخضوع لسمات شكلية ومعيارية موروثة، هذا بالإضافة إلى النقد الانطباعي طبعا،وقد كان مَعْلَمُهُ في إقامة الموازنة هو العمود الشعري ،ومادته شعر أبي تمام والبحتري،حيث أشار كثيرا إلى خروج أبي تمام عن تقاليد الشعر العربي(عمود الشعر)، من خلال ثلاث سمات: ([1])
· إسرافه في استخدام البديع حد التصنع غير الفني.
· توخيه أساليب المجاز،ولا سيما الاستعارة قصدا ،حد مخالفة العرف التقليدي.
· اتصاف بعض معانيه بالغموض حد الاستعصاء على الفهم.
والملاحظ أن أحكام الآمدي،لم تكن تراعي النص الشعري كاملا، بل كان يقتطع منه البيت أو البيتين،فيصدر حوله حكما مثل قول أبي تمام: ([2])
يا دَهرُ قَوِّم مِن أَخدَعَيكَ فَقَد أَضجَجتَ هَذا الأَنامَ مِن خُرُقِك
وقوله : ([3])
تَحَمَّلتَ ما لَو حُمِّلَ الدَهرُ شَطرَهُ لَفَكَّرَ دَهراً أَيُّ عِبأَيهِ أَثقَلُ
أو قوله أيضا: ([4])
فَضَرَبتَ الشِتاءَ في أَخدَعَيهِ ضَربَةً غادَرَتهُ عَوداً رَكوبا
فالبيت الأخير مثلا:قد انتقاه الآمدي،من بين خمسة وخمسين بيتا ،كلها ما بها من بأس،سوى هذا البيت الذي رأى فيه الآمدي،كما في أبيات أخرى على شاكلته،مفردة كل بيت من قصيدة أو مقطوعة،قبيح استعارة أبي تمام.
ففي أول الموازنة ،يمنح الآمدي (السرقة في المعاني)اهتماما بالغا،ذلك لكونها كانت محل عناية أهل عصره([5])ومنهجه كان المناقشة الجزئية للبيت الواحد ،ونادرا ما يعطي تصورا نظريا لمفهوم الاستعارة،أو المبالغة في (الخيال الشعري)أو (الصدق والكذب)ومن ذلك له مثلا تعليق حول بيت أبي تمام الذي يقول فيه: ([6])
الوُدُّ لِلقُربى وَلَكِن عُرفُهُ لِلأَبعَدِ الأَوطانِ دونَ الأَقرَبِ
فيقول الآمدي في تعليقه:"إنه نقص الممدوح مرتبة من الفضل،وجعل ودّه لذي قرابته ومنهم عرفه،وجعلهم في الأبعدين دونهم،ولا أعرف له في هذا عذرا يتوّجه"([7]).
كما أنه(الآمدي)لم يعمد في القسم الثالث،إلى الموازنة بين قصيدتين،من شعر أبي تمام،والبحتري،متفقتين في الوزن والقافية،ولكنه اكتفى بالمقارنة،بين معنى ومعنى في أبيات معينة،([8])ومناقشة المعاني بينهما جاءت مرتبة،وفق المواضيع في القصيدة الطويلة عند العرب،وما اشتملت عليه من الوقوف على الطلل،والتجوال خلال الدياروالغزل أو النسيب،ثم المدح أو الوصف،في نتف لا يصح معها الحكم النقدي السليم أو الدقيق،أو التعليل الفني المستند إلى معايير نقدية.
حيث كانت الأحكام التي استصدرها الآمدي كلها انطباعية،على نحو"هذا معنى ما لحسنه نهاية،ولفظ غاية في البراعة والحلاوة"([9]) أو نحو قوله:"هذا ابتداء حسن جيد..وهذا ابتداء ليس جيد الإبتداءات ولا رديئها"([10])و"هذا غاية في صحته وحسن معناه"([11])وربما لجأ الآمدي في نهجه هذا إلى العرف المتبع في زمانه،وقد كان أكثر من عرفوا بالنقد وبرعوا في اللغة ،والنحو وتأثروا بهم،فضلا عن أن النقد لم يكن تخصصا
بل كان جزء من مهام عالم اللغة، سيما وقد كان الشعر منهلا يغترف منه عالم اللغة ويحاجج به،وبدونه يكون كالأعزل من السلاح،وسط المعركة، وبالتالي لا يمكنه أن يكون بدعا فيقرأ القصيدة كلها معتبرا إياها نصا شعريا متكاملا لا يمكن بتره أو تجزئته، ومع ذلك كله،اعتبر عمل الآمدي في الموازنة،أساسا نقديا تطبيقيا انبنى على أركان نقدية هامة منها:
أ- مفهوم السرقة: وقد قسمه إلى قسمين من حيث المعاني،ما تجوز فيه
السرقة ،وما لا تجوز فيه كونه معاني مشتركة،وفي هذا المجال كشف على أبي تمام مائة وعشرين بيتا رآه فيها سارقا،ودافع عنه في واحد وثلاثين بيتا فيها من المعنى الشائع والمتداول المشترك([12]) وقد كان الآمدي يعد السرقة معيارا نقديا،لما أصبح القديم منطلقا أنموذجيا،ينبغي على الجديد أن ينطلق منه ويبدأ،وبذلك الشعراء الجدد صادرين عن الشعر القديم،في انضباط تام بقواعدية اللغة والبناء الشعري،فأصبح بذلك البحث عن السرقة الهم الوحيد للنقد والتقويم([13])
ب- معيار اللفظ والمعنى: أعتمد الآمدي في نقد اللفظ على القياسات اللغوية التي تواضع عليها أهل اللغة والنحو،ومواصفات العرف للمعنى ومن ذلك نقده لأبي تمام في قوله(من الطويل): ([14])
لَقَد طَلَعَت في وَجهِ مِصرَ بِوَجهِهِ بِلا طالِعٍ سَعدٍ وَلا طائِرٍ كَهلِ
فعدّ الآمدي"هذا من وحشي الكلام ومستكره الألفاظ،وقوله طائر كهل لم تسمع
إلا عند أحد شعراء هذيل،وهو ما لا يحقق لأبي تمام القياس عليه أو اتباعه،بوصفه
غير شائع"([15])أما عندما تناول أبيات أبي تمام التي يقول فيها(من الكامل) ([16])
ظَعَنوا فَكانَ بُكايَ حَولاً بَعدَهُم ثُمَّ اِرعَوَيتُ وَذاكَ حُكمُ لَبيدِ
أَجدِر بِجِمرَةِ لَوعَةٍ إِطفاؤُها بِالدَمعِ أَن تَزدادَ طولَ وُقودِ
فقال الآمدي:"هذا خلاف ما عليه العرب،وضد ما يعرف من معانيها..فلو كان اقتصر على المعنى الذي جرت العادة به في وصف الدمع،لكان المذهب المستقيم ولكنه استعمل الإغراب فخرج إلى ما لا يعرف في كلام العرب ،ولا مذاهب سائر الأمم "([17])
وأيضا علق على قول أبي تمام(من الخفيف): ([18])
زارَني شَخصُهُ بِطَلعَةِ ضَيمٍ عَمَّرَت مَجلِسي مِنَ العُوّادِ
قائلا:"فإن قوله: عمرت مجلسي من العواد،معنى لا حقيقة له،لأنا ما رأينا ولا سمعنا أحدا جاءه عوّاد يعودونه من الشيب،ولا أن أحدا أمرضه الشيب،ولا عزّاه المعزّون
عن الشباب "([19])وقد رأى بعض النقاد أن أبا تمام،غزير الإطلاع على التراث الشعري وربما كان ما ظنه الآمدي على أنه خطأ،من باب ما كان قد سمعه أبو تمام أو حفظه.
1-2 منهج الآمدي في الموازنة.
الموازنة النقدية التي أقامها الآمدي ،عنوانا لكتابه،ومضمونا نقديا للتحكيم والمقايسة بين شعر أبي تمام والبحتري،وقد حاول من خلالها تمييز ما هو جيد مما هو رديء ،بالتعليل القائم على العلة،أحيانا أو إطلاق الأحكام دون تعليل أحايين أخرى،معلنا تفوق أحدهما على الآخر،دون أن يحسم فيمن هو أشعر من الآخر على الإطلاق،رغم أنه كان قد صرح في البدء ،أنه سيوازن نقديا بين قصيدة وأخرى من شعرهما متفقتين في الوزن والقافية وإعراب القافية والمعنى،ليحكم إثر ذلك على تلك القصيدة،وذلك المعنى من أراد على ما لكل منهما من جيد ،بعد إحاطة من أراد الحكم بمعرفة الجيد من الرديء([20]) .
ولكن لما جاء إلى التطبيق قال :"انتهيت الآن إلى الموازنة ،وكان الأحسن أن أوازن بين البيتين أو القطعتين،إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية،ولكن هذا لا يتفق مع اتفاق المعاني ،التي إليها المقصد وهي المرمى والغرض"([21]) وهذا يدل على الفرق بين التصور النقدي المسبق(النظري)،وبين ما اهتدى إليه خلال التطبيق،وهذا من أصعب ما يواجه النقاد حتى الحداثيين منهم ،وهو صعوبة تجسيد النظري في التطبيقي([22]).
ولم يكن هذا نهج الآمدي وحده ،بل كان نهج عامة اللغويين والنحاة،وما
اتخذوه من مواقف فيما يخص التقليد والتجديد في القصيدة،إذ يذكر صاحب الموازنة
،أن "إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنشد الأصمعي(من الخفيف):([23])
هل إلى نظرةٍ إليكِ سبيلُ يُروى منها الصَّدَى ويشفى الغليلُ
إن قلَّ منك يكثُرُ عندي وكثيرٌ ممن تُحِبُّ القليلُ
فقال الأصمعي: لمن تنشدني ؟فقال :لبعض الأعراب،..قال:والله هذا هو الديباج الخسرواني،فقال :فإنهما لليلتهما،قال: لا جرم والله إن أثر الصنعة والتكلف بيّن عليهما"([24])ثم يعقب الآمدي معلقا:"فالأصمعي في هذا غير ظالم،لإسحاق،مع علمه بالشعر،وكثرة روايته،لا ينكر له أن يورد مثل هذا،لأنه يقوم في النفس أنه قد احتذاه
على مثال،وأخذه عن متقدم، وإنما يستظرف مثله من الأعرابي الذي لا يعوّل إلا على طبعه وسليقته"([25]).
و ما يمكن قوله في هذا المجال،" إن المقاييس النقدية في هذه المرحلة كانت مضطربة،ولم يكن هناك منهج واضح ومتبع، في متناول النصوص الشعرية بالدرس والتحليل والتعليل، و أغلب ما صدر عن نقاد هذه المرحلة كان يحكمه الذوق، الشخصي ولذلك جاءت أحكامهم مبتسرة وجزئية، وبعيدة عن الأحكام التفصيلية،ويمكن ملاحظة ذلك في النقد الشعري الذي صدر عن النقاد المحافظين،من الرواة اللغويين والنحاة ،وبخاصة أولئك الذين عدّوا كل شعر يخرج فيه صاحبه عن نمط المألوف باطل،لأنه لا يرقى إلى مصافّ الشعر"([26]).
ويشير داود سلوم إلى أن الآمدي،أخذ بقول الإمام علي كرم الله وجهه، ورضي عنه لما سئل،أي الشعراء أكثر إحسانا ؟فقال:"كل شعرائكم محسن،ولو جمعهم زمان واحد،وغاية واحدة،ومذهب واحد في القول،لعلمنا أيهم أسبق إلى ذلك،وكلهم قد أصاب الذي أراد وأحسن فيه،وإن يكن أحد أفضلهم،فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة،أمرؤ القيس بن حجر ،فإنه كان أصحهم بادرة،وأجودهم نادرة"([27])يقول "فقد أوحت له فكرة بناء الموازنة بين شاعرين جمعهم زمان واحد ،وغاية واحدة،وهو بناء القصيدة العربية، لغرض المدح أو الرثاء،مع إخضاعهما لعمود الشعر العربي، جهد
الإمكان،وإن اشتراك الشاعرين في الزمن والموضوع جعل إمكانية النظر في أيهم أجود
شعرا من الآخر،ممكنة التحقيق في المنطق النظري"([28]) .
1-3 معايير الشعرية عند الآمدي.
من العناصر المعيارية التي أسس عليها الآمدي شعرية الموازنة،مقياس صحة المعنى،وهو عنده مفهوم نقدي فيه من"الصحة المنطقية الدالة على انطباق القول على الواقع المشاهد ،بعيداً عن الخلط ،أو الفساد،أو الإحالة، محتكما إلى ما كثر عند الشعراء السابقين وما تواضع عليه العرف،وما أيده العقل والمنطق"([29])وهي دعائم ثلاث،تبدو كافية تماما إذا ما أحسن استغلالها وتطبيقها،وإلى جانب المقياس آنف الذكر،وضع الآمدي مقياس استقامة اللفظ ،وهذا الأخير له صلة بالانسجام مع القواعد اللغوية،والنحوية،مع وضوح معناه ، وفي هذا السياق أخذ الآمدي على أبي تمام قوله(من الطويل) ([30])
رَضيتُ وَهَل أَرضى إِذا كانَ مُسخِطي مِنَ الأَمرِ ما فيهِ رِضا مَن لَهُ الأَمرُ
فقال معلقا عن معنى البيت:"وهل أرضى؟ إنما نفي للرضا،فصار المعنى :ولست أرضى إذا كان الذي يسخطني ما فيه رضى من له الأمر:أي رضى الله تعالى،وهذا خطأ فاحش"([31]) وفي سياق استقامة اللفظ ،يفرد الآمدي بابا كاملا باسم وحشي الكلام، وما يستكره من الألفاظ،وفي هذا السياق أخذ على أبي تمام بعض الألفاظ البدوية غير
المألوفة، أو المأنوسة كما في قوله(من البسيط): ([32])
أَهيَسُ أَليَسُ مَشّاءٌ إِلى هِمَمٍ تُغَرِّقُ العيسَ في آذِيِّها الليسا
فألفاظ (أهيس وأليس،والليسا) مستكرهة،كما تناول الآمدي بالإضافة إلى صحة المعنى واستقامة اللفظ،الإصابة في الوصف،الذي يعدُّه الآمدي من"أركان شعريته" وبه تستحكم صناعة الشعر فيقول"أنا أجمع لك معاني سمعتها من شيوخ أهل العلم،بالشعر:زعموا أن صناعة الشعر وغيرها من سائر الصناعات،لا تجود وتستحكم إلا بأربعة أشياء وهي :جودة الآلة،و إصابة الغرض المقصود، وصحة التأليف،والانتهاء إلى تمام الصنعة،من غير نقص فيها ولا زيادة"([33]) فإصابة الغرض المقصود،تتم بالوصف،وهو هنا يوافق سائر منظري الشعرية العربية،لذا فهو ينسب قوله إلى شيوخ أهل العلم بالشعر كالأصمعي وابن المعتز، وقدامة بن جعفر،وغيرهم .
ومما احتكم به في هذا الباب عند أبي تمام هو قوله(من الكامل): ([34])
لَو يَعلَمُ العافونَ كَم لَكَ في النَدى مِن لَذَّةٍ وَقَريحَةٍ لَم تُحمَدِ
حيث يرى أن قوله:"من لذة وقريحة"خطأ لأن الوصف داعية أن يتناهى الحامد له في الحمد ويجتهد في الثناء ،لا أن يدع حمده([35])والغاية من" مفهوم الوصف عنده،هو محاولة محاكاة الواقع الموصوف من خلال تمثيل سائر معانيه تمثيلا لفظيا، أو استعراضيا بعض وجوهها حتى يتمثل للمتلقي،وكأنه مكشوف أو باد للنظر الواقعي، على نحو ما قال به قدامة بن جعفر"([36])ومن مقومات الموازنة عنده أيضا بعضا مما اتفق حوله النقاد القدامى كالمقاربة في التشبيه،باعتباره عنصرا بلاغيا وجماليا لا يمكن الاستغناء عنه،وهو الباعث على حفظ الشعر وروايته ،كما يرى ابن قتيبة([37])إضافة إلى التحام أجزاء النظم.
وقد عدّه الآمدي "صحة التأليف،التي بها تجود صناعة الشعر لأن سوء التأليف ورداءة اللفظ،يذهب بطلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميه،حتى يحوج مستمعه إلى طول تأمل، وهذا مذهب أبي تمام،في عظم شعره وحسن التأليف،وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بها،حسنا ورونقا حتى كأنه قد أحدث في غرابة لم تكن ،وزيادة لم تعهد،وذلك مذهب البحتري،ولهذا قال الناس:لشعره ديباجة،ولم يقولوا ذلك في شعر أبي تمام"([38])وفي هذا الخضم، للآمدي إجراء تطبيقي حول بيت أبي تمام الذي يقول فيه (من الكامل):([39])
يَومٌ أَفاضَ جَوىً أَغاضَ تَعَزِّياً خاضَ الهَوى بَحرَي حِجاهُ المُزبِدِ
وكان حكمه"جعل الشاعر اليوم أفاض جوى،والجوى أغاض تعزيا،والتعزي موصولا به خاض الهوى ،إلى آخر البيت،وهذا غاية مايكون من التعقيد والاستكراه مع أن أفاض وأغاض وخاض ، هي ألفاظ أوقعها في غير مواقعها، وأفعال غير لائقة، بفاعلها"([40])كما عمد الآمدي إلى مقياس بلاغي آخر،عنون له بمناسبة المستعار منه للمستعار له،وذلك من منطلق أن الاستعارة من أهم مقومات جمالية الشعر،حيث ألمت بها الشعرية العربية عند القدامى،إلا أنهم اشترطوا أن تكون على طريقة العرب ،قريبة غير بعيدة،تحقق تناسبا لا لبس فيه،من المستعار ومن المستعار منه والمستعار له،لا سيما الآمدي.
وبذلك يكون قد ساهم في تضييق أفق الخيال الشعري الذي هو عماد الشعرية، وحد من شاعرية الشاعر وقيده،وذلك مالا يتناسب مع القول الشعري،وقد تنبه الدكتور إحسان عباس لذلك فقال:"إن تعقب هذه الاستعارات،قد أصاب الطريقة الشعرية،نفسها فإذا كان النقد ذا أثر في تربية الذوق، فإن نقد الآمدي وأشباهه، قد أحال دون تكثير الطبقة التي تتذوق الجدة في الاستعارة،وتقبل على ما يمكن في طبيعة الخيال الخلاق من إبراز الحياة في صور جديدة " ([41])،وكان آخر ما وضعه الآمدي من مقاييس للموازنة،هو معيار لا يقل أهمية عما سبقه،ويتمثل في مشاكلة اللفظ للمعنى،وهو معيار متصل بالدلالة أكثر من اتصاله باللفظ،وقد عنى بالمشاكلة والموافقة التي تكون بين اللفظ والمعنى، وقد قال بهذا المقوم أيضا قدامة بن جعفر في نقد الشعر([42])ومن مآخذ الآمدي في هذا السياق،نبذه للتكرار الوارد في بيت الأعشى الذي يقول فيه(من البسيط) ([43])
وَقَد غَدَوتُ إِلى الحانوتِ يَتبَعُني شاوٍ مِشَلٌّ شَلولٌ شُلشُلٌ شَوِلُ
إذ يرى أن الألفاظ بعد (شاو)كلها متقاربة المعنى،وتكرارها على هذا النحو لا يتناسب والمعنى المعبر عنه([44]).
خلاصة القول:
يمكننا القول أن شعرية الآمدي في الموازنة،انبنت وفق مصطلح عمود الشعر،على أنه طريقة العرب،المتعارف عليها،في صناعة الشعر و إبداعه،ولم يكتف بالتنظير والتقعيد كالكثير ممن سبقوه،بل جعلها على أساس تطبيقي،مستفيدا من النظريات السابقة له،وقد حاول أن يثبت انتساب شعر البحتري للمقومات الشعرية العربية،وأراد أن يثبت العكس بالنسبة لشعر أبي تمام،وبرهانه في ذلك بعض الأحكام المستنبطة، على أجزاء بسيطة جدا من قصائد طويلة ،مع أن تلك الأحكام أميل إلى النقد الانطباعي منه إلى الموضوعية،أو المعايير المؤسسة لشعرية النص عند القدامى،ومع ذلك لا يمكن إنكار الخطوة الهامة التي أسسها الآمدي،على صعيد النقد التطبيقي، وأسلوب الموازنة والمقارنة.
وقد نحى هذا النحو(النقد التطبيقي)القاضي عبد العزيز الجرجاني(ت366هـ)في مؤلّفه الوساطة بين المتنبي وخصومه،الذي كان فيه مثالا للناقد الفذ في نزاهة الحكم
والعمل بآراء نقدية سابقة،وأهمل قضايا (كقضية اللفظ والمعنى)ويبقى أن نقول ،لا تستقيم شعرية نص ما،إلا بتفاعل بناه الداخلية،ومقدرتها على التحول فيما بنها لتولد مالا يحصى من الأنظمة الشاعرية فيها،مفجرة طاقات الإشارات اللغوية([45])،والمخزون الممكن إحداثه بناء على الخيال الشعري.
1- شعرية الوساطة عند الجرجاني.
لقد بلغت شعرية النص مبلغا راقيا، بعد أن تبعت بنظرية العمود الشعري، التي صارت أوضح من علم به نار،وذلك بفضل جهود النقاد اللغويين، رغم أن النقد لم يكن اختصاصا منفردا بذاته، إنما كان النقد الأدبي(نقد الشعر )يتداخل مع جهود اللغويين والنحاة في التقعيد، ولكن ذلك لم يكن كافيا، حيث أطنب هؤلاء في التنظير، والوصف والتعليق، على شاكلة (يجب على الشاعر أن… وعليه أن يفعل كذا… ولا يفعل كذا…) وأبخسوا التطبيق حقه، إلا من نتفات قام بها الأوائل،كأم جندب في محاكمتها،بين زوجها أمرئ القيس وعلقمة الفحل، أو مقايسات النابغة في سوق عكاظ، وظل الحال هكذا حتى جاء الآمدي لينقل النقد الشعري من التنظير المجرد، إلى مجال يجمع فيه بين النظرية والتطبيق.
وقد كان منحاه فيه عقليا ومنطقيا صرفا لدرجة أنه أغفل فيه الجانب الوجداني، والذوق الانفعالي، مما جعله يتدخل في قدرة الشاعر على التشخيص، والخيال،وقد
انتصر لطريقة العرب القدامى، ومذهبهم في الشعر بصرامة اللغوي، وليس بإحساس الناقد المتذوق لجمالية الفن.
الأمر الذي جعله يسم البحتري، بالأصالة ويفضله على أبي تمام فقال"المطبوعون وأهل البلاغة، لا يكون الفضل عندهم من جهة استقصاء المعاني أو الإغراق في الوصف،وانما يكون الفصل عندهم في الإلمام بالمعاني وأخذ العفو منها كما كانت الأوائل تفعل مع جودة السبك وقرب المأتى والقول في هذا قولهم، وإليه أذهب"[46]وقد جاء بعده الجرجاني ولم يأت بجديد على مستوى النظري.
ولكنه أحسن استغلال نظريات سابقيه، واستعراضها"وقد بدا الجرجاني ناجحا أكثر من الآمدي،في مبدأ المقايسة،عند دفاعه عن المتنبي"([47]) مع أنه لم يكن سوى تلميذه،"وماكان الآمدي إلا معلما للجرجاني،فنجح الآمدي نظريا فقط،بينما نجح تلميذه في منهجه نظريا وعمليا،أما في الآراء والنظرات النقدية،فإن الجرجاني لم يأت بشيء جديد، و انما التقت عنده أكثر الآراء والنظرات السابقة،فأحسن استغلالها في التطبيق والعرض"([48]) ومن ضمن المقومات الشعرية التي اعتمدها الجرجاني، في الوساطة بين المتنبي وخصومه،عناصر كلها اختص بها المتنبي بالتقديم،وهي: ([49])
1- شرف المعنى وصحته.
2- جزالة اللفظ واستقامته.
3- الإصابة في الوصف.
4- المقاربة في التشبيه.
5- غزارة البديهة.
6- كثرة الأمثال السائرة،والأبيات الشاردة.
ولعل مما مهد ووطّد الطريق أمام، النضج الذي بلغته شعرية "الوساطة"يعود إلى الخصومة بين الطائيين،والذي يعود السبب فيه إلى الحداثة التي شهدها أبو تمام والمولدون،والتي أخذت بعدا أيديولوجيا،جمع بين الدين والسياسة،وشكلت مذهبين متناقضين،أديا إلى انقسام النقاد حولهما،إلى أنصار للقديم،وأنصار للحديث.
فانبثق عن تلك الحركة النقدية عدة مؤلفات نقدية، أسست "لشعرية النص" وأرست لها قدما في أرض الأدب والأدبية، ومن ذلك (أخبار أبي تمام، للصولي (ت335هـ)والموازنة للآمدي(ت370هـ) والوساطة للقاضي الجرجاني(ت392هـ)
ومن هذه المؤلفات ما جاء،فيه حسم في بعض القضايا التي تتعلق بما ذهب إليه خصوم أبي تمام، كما جاء في الأخبار للصولي:"فقد ادعى قوم عليه الكفر،بل حققوه،وجعلوا ذلك سببا للطعن على شعره،وتقبيح حسنه"([50])ويرد الصولي على أصحاب التهمة ،فيقول:"ما ظننت أن كفرا ينقص من شعر،ولا أن إيمانا يزيد فيه"([51]) ثم يحسم الجرجاني بالنفي القاطع لهذه التهمة،التي لفقت لأبي تمام.
فيقول في الوساطة:"فلو كانت الديانة عاراً على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر، لوجب أن يُمحى اسمُ أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عُدّت الطبقات، ولَكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبَعري وأضرابُهما من تناول رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ،وعاب من أصحابه بُكْماً خرساً، وبِكاء مفحمين؛ ولكنّ الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر".([52])وقد تمثل القاضي الجرجاني أقوال النقاد بأسلوب مقايسة متميز،وفق العناصر التي سبق لنا ذكرها.
وهو يشير إلى أنه"كانت العرب إنما تُفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحّته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلّم السّبْق فيه لمَنْ وصف فأصاب، وشبّه فقارب، وبدَهَ فأغزَر، ولمَن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته؛ ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفِل بالإبداع والاستعارة إذا حصل لها عمود الشعر، ونظام القريض،وقد كان يقع ذلك في خلال قصائدها، ويتّفق لها في البيت بعد البيت على غير تعمد وقصْد، فلما أفْضى الشعر إلى المحْدَثين، تكلّفوا الاحتذاء عليها فسمّوْه البَديع؛."([53])ذلك أن عمود الشعر حسبه،إذا حصل،يأتي بالتجنيس والمطابقة،والبديع والاستعارة،عن طبع وفطرة ،وليس عن صناعة وقصد أو إعمال فكر،وطول تأمل،بل يكون مستوحيا من طريقة العرب وعمودها وفق أسلوب السهل الممتنع،القريب المتناول،من مثل،قول الشاعر(من الوافر): ([54])
أَقولُ لِصاحِبي وَالعيسُ تَهوي بِنا بَينَ المُنيفَةِ فَالضِمارِ
تَمَتَّع مِن شَميمِ عَرارِ نَجدٍ فَما بَعدَ العَشيَّةِ مِن عَرارِ
أَلا يا حَبَّذا نَفَحاتُ نَجدٍ وَرَيّا رَوضِهِ غِبَّ القُطارِ
وَأَهلُكَ إِذ يَحِلُّ الحَيَّ نَجداً وَأَنتَ عَلى زَمانِكَ غَيرَ زاري
شُهورٌ يَنقَضينَ وَما شَعُرنا بِأَنصافٍ لَهُنَّ وَلا سَرارِ
فَأَمّا لَيلُهُنَّ فَخَيرُ لَيلٍ وَأَطوَلُ ما يَكونُ مِنَ النَهارِ
فيقول القاضي الجرجاني مثنيا على هذه الأبيات:"إن المتلقي يجد عند قراءتها سَورة من الطرب،وارتياح النفس،بسبب بعدها عن الصنعة المقصودة،كونها سهلة المأخذ قريبة المتناول "([55]) فهو يرى أن سلاسة اللفظ من سلامة الطبع،ويؤكد أن الشعر "علم من علوم العرب،يترك فيه الطبع والرواية، والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له،وقوة لكل واحد من أسبابه"([56])ومن خلال مداخلات الجرجاني التي توفرت بين أيدينا، يمكننا أن نسوق عناصر الشاعرية ،كما يراها في ثلاثة: الطبع والرواية والذكاء.
والتي لا يتم لها التشكل إلا عن طريق الدربة التي فيها قوة كل عنصر من هذه العناصر.
أولا: الطبع
فالطبع عند الجرجاني هو الذي يحفظ الشعر ويخلده وبالتالي هو عامل مساعد على نقاوة الشعر و أصالته،على مرور الزمن،"وإذا أردت أن تعرف موقع اللفظ الرشيق من القلب،وعظم غنائه في تحسين الشعر،فتصفح شعرجرير،وذي الرمة في القدماء، والبحتري في المتأخرين،وتتبع نسيب متيمي العرب ومتغزلي أهل الحجاز"([57]).
ثانيا: الرواية
هي التي أجمع السابقون على عدّها شرطا من شروط الفحولة في قول الشعر،والتي يجعلها القاضي الجرجاني،معيارا من معايير الشاعرية في الوساطة،ذلك لأن "المطبوع الذكي لا يمكنه تناول ألفاظ العرب،إلا رواية،ولا طريق للرواية إلا السمع
وملاك الرواية الحفظ"([58]).
ثالثا :الذكاء
وهو مقرون بالطبع عند الجرجاني،لكونهما منحة فطرية، قابلة للتطور والنمو بفضل الدربة والمراس،فإذا توفرت هذه العناصر ،تمكن الشاعر من المعايير الشعرية التي بها تحدث المفاضلة،بين الشعراء والنصوص الشعرية،والتي يسوقها القاضي الجرجاني في قول مختصر:" وكانت العرب إنما تُفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن بشرف المعنى وصحّته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلّم السّبْق فيه لمَنْ وصف فأصاب، وشبّه فقارب، وبدَهَ فأغزَر، ولمَن كثرت سوائر أمثاله وشوارد أبياته."([59])وإذا تفحصنا هذا القول نكتشف مدى التقارب بين الجرجاني،وسابقيه وكذا معاصريه،ونهله من مشاربهم واستيعابه لها،وهي مبادئ نقدية وظواهر معرفية مستوحاة من النقد العربي القديم ،حيث استوفى الجرجاني مقومات دفاعه عن المتنبي،منها وسار على حدودها وحذا حذوها في التطبيق،وهي:
1-شرف المعنى وصحته، وهذا له علاقة بمناسبته لمقتضى الحال واتصافه بالصحة المنطقية والحقيقة الموضوعية،ومن مؤاخذاته على بعض الشعراء في هذا الباب،رأيه في قول امرئ القيس : ([60])
وَأَركَبُ في الرَوعِ خَيفانَةً كَسى وَجهَها سَعَفٌ مُنتَشِر
إذ يرى في هذا وصفا لفرس ليس بالكريم،ولا الأصيل لأن شعر الناصية
إذا غطّى وجه الفرس لم يكن أصيلا.
أما الاستعارة عند القاضي الجرجاني،فعليها يُعوَّل،وهي جوهر اللفظ ورونقه،فهي"أحد أعمدة الكلام وعليها المعول في التوسع والتصرف،وبها يتوصل إلى تزيين اللفظ وتحسن النظم والنثر"([61])وقد كان الأقدمون يقتصدون في الاستعارة إلى أن جاء أبو تمام فتعدى ذلك وتبعه المحدثون بعده،ولهذا نجد الجرجاني يتجاوز عن قول المتنبي: (من البسيط)
مَسَرَّةٌ في قُلوبِ الطيبِ مَفرِقُها وَحَسرَةٌ في قُلوبِ البَيضِ وَاليَلَبِ([62])
وهو البيت الذي جعل فيه قلوبا للبيض والطيب واليلب ([63])وكذلك أن يجعل للزمان فؤادا كما في قول أبي الطيب المتنبي (من المنسرح): ([64])
تَجَمَّعَت في فُؤادِهِ هِمَمٌ مِلءُ فُؤادِ الزَمانِ إِحداها
و الجرجاني يميل إلى أن تكون الاستعارة على وجه صحيح من المناسبة بين المستعار منه والمستعار له،وعلى طرف من التشبيه والمقاربة،قريب من العقل،وقد قال الجرجاني بمراعاة التوسط والاقتصاد،في الاستعارة حتى لا تكون بعيدة عن إدراك المتلقي مع مراعاة أن لغة الشعر تجمع بين الأضداد ،كما في قول المتنبي(من الطويل): ([65])
عَوابِسَ حَلّى يابِسُ الماءِ حُزمَها فَهُنَّ عَلى أَوساطِها كَالمَناطِقِ
أو قوله في موضع آخر(الخفيف): ([66])
تَفضَحُ الشَمسَ كُلَّما ذَرَّتِ الشَمـ سُ بِشَمسٍ مُنيرَةٍ سَوداءِ
فاليبس والماء والشمس والسواد لا يلتقيان ،إلا في لغة الشعر،كما يرى الجرجاني.
2- جزالة اللفظ واستقامة المعنى وهو عنده"ما ارتفع عن الساقط السوقي وانحط عن البدوي" ([67]) ومنه التركيب المعقد، الذي لا يفضي إلى دلالة ، كقول المتنبي:
(من الطويل) . ([68])
وَفاؤُكُما كَالرَبعِ أَشجاهُ طاسِمُه بِأَن تُسعِدا وَالدَمعُ أَشفاهُ ساجِمُه
يقول الجرجاني في هذا البيت:" ومن يرى هذه الألفاظ الهائلة، والتعقيد المُفرط، فيشك أن وراءَها كنزاً من الحكمة، وأن في طيّها الغنيمة الباردة؛ حتى إذا فتّشها،وكشف عن سترها، وسهِر ليالي متوالية فيها حصل على أن وفاء كما يا عاذليّ بأن تُسعِداني إذا درس شجاي، وكلما ازداد تدارُساً ازددت له شجْوا؛ كما أن الربع أشجاه دارسُه."([69])
3-الإصابة في الوصف،ويريد بها صاحب الوساطة "مقدرة الشاعر على تصوير الموصوف تصويراً مطابقا لصفاته ومكوناته،ليحيط به إحاطة تامة ويلم به على نحو صحيح،فإن هذا يشير إلى أن الشاعر إنما يرصد الأشياء رصدا خارجيا،ويحاول أن يحاكيها، محاكاة لفظية خاصة في محولة تمثيلها صوتيا ،على نحو لا يختلف فيه القول عن الواقع من جهة الوصف أي المطابقة بين لغة الوصف ومكونات الموصوف من جهة الرسم "([70])ومن أسلوب الوصف الذاتي الذي أورده الجرجاني،في سياق حديثه عن الإصابة في الوصف،قول المتنبي(من الخفيف) ([71])
أجدُ الحزنَ فيكَ حِفظاً وعقْلاً وأراهُ في الخلْقِ ذُعْراً وجهْلا
لك إلْفٌ يجرّه وإذا ماكرُم الأصلُ كان للإلْفِ أصْلا
ووفاءٌ نبتّ فيه ولكنْ لم يزلْ للوَفاءِ أهلُك أهْلا
إنّ خيرَ الدُموعِ عوْناً لَدَ مْعٌ بعثتْهُ رعايةٌ فاستَهلاّ
أينَ ذي الرِّقّة التي لك في الحرْ بِ إذا استُكْرِهَ الحديدُ وصلاّ
4- المقاربة في التشبيه،وقد قسمه المبرد في الكامل،إلى"أربعة أضرب،فتشبيه مفرط وتشبيه مصيب،وتشبيه مقارب،وتشبيه بعيد،يحتاج إلى التفسير ولا يقوم بنفسه وهو أخن الكلام"([72]).
5- غزارة البديهة، وهي دلالة على قوة شاعرية الشاعر وأصالتها،وهي صفة منصفات الفحولة في الشاعر،ومن غزرت بداهته،كان سريع التجاوب والتفاعل مع العالم من حوله.
6-كثرة الأمثال السائرة،والأبيات الشاردة،ذلك لأن البيت الشارد قوي فنيا وسريع التعلق بذهن سامعه،ونظرا لما يحمله بين جوانحه من القيمة والحكمة،يتحول في أفواه الرواة إلى مثل سائر،وهو ما رسخ في النقد العربي مقولة :أشعر بيت ،أو أمدح بيت ،وأحسن ما قيل في كذا،وما إلى ذلك.
خلاصة القول
إن قراءة المعايير التي احتكم إليها النقد الأدبي،في قراءته الشعر العربي،تكشف عن مقومات الشعرية العربية كما عرضها النقاد الأوائل،وهي التي تشكل المرجعية الثقافية النقدية،التي أسست لقول الشعر فيما بعد ،وعلى ضوئها أقام المرزوقي عمود الشعر،والتي لم تخرج إلى الوجود دفعة واحدة،بل مرت على مراحل تاريخية ،بدأت بمرحلة التأسيس،التي كان النقد فيها شفهيا،موازاة مع الشعرية الشفوية،ثم أصبح نقدا تسجيليا،في عصر التدوين،ثم انتقل بعدها إلى صفته النهائية،التي جعلت منه نظرية علمية ثابته إلى حد ما(الشعرية العربية).
التي أجمع حولها النقاد،كأصل من أصول الأدب التي لا محيد عنها ،ومع الازدهار الذي شهده الأدب والشعر خاصة،قام بعض النقاد إلى نقل الشعرية العربية ،إلى المجال التطبيقي،على شاكلة الموازنة،والوساطة،والخصومة بين الطائيين،ومن ثم لاقى النص الشعري اهتماما أثمر "شعرية النص"لا سيما النص عند المحدثين،بعد التداخل اللانهائي الذي حصل بين العلوم العارضة للأدب،من خلال النص المدون.
سعيدة في:12/12/2008
*- محمد مصابيح- ماجستير في النقد الأدبي المعاصر-جامعة جيلالي ليابس سيدي بلعباس
البريد الإلكتروني:
[1] -ينظر : عبد الرحمن غركان،مرجع سابق ،ص 83.
[2] - أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي،الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري تح:السيد أحمد الصقر،دار المعارف،ط2 مصر 1973،ج1ص245.وينظر ديوان أبي تمام.
[3] - المرجع السابق ،ص248.وينظر الديوان.
[4] - المرجع السابق نفسه ،ص،247.وينظر الديوان.
[5] - المرجع السابق نفسه ،ص،133.
[6] - المرجع السابق نفسه ،ص167.
[7] - المرجع السابق نفسه ،ص،167.
[8] - ينظر: د عبد الرحمن غركان ، المرجع السابق ،ص 84.
[9] - الآمدي، المرجع السابق ،ج2ص5.
[10] - المرجع السابق نفسه ،ص5،6.
[11] - المرجع السابق نفسه ،ص208.
[12] - ينظر : المرجع السابق نفسه -ج1ص291.
[13] -د عبد الرحمن غركان، المرجع السابق ،ص87.
[14] - الموسوعة الشعرية،ديوان أبي تمام.
[15] - الآمدي، المرجع السابق ،ج1ص284.والموسوعة الشعرية ديوان أبي تمام.
[16] - الموسوعة الشعرية،ديوان أبي تمام.
[17] - المرجع السابق نفسه ،ج1ص199.والموسوعة الشعرية، ديوان أبي تمام.
[18] - الموسوعة الشعرية،ديوان أبي تمام.
[19] - الآمدي المرجع نفسه ،ج2ص212.،213.
[20] ، المرجع السابق ، ج1ص54.
[21] - الآمدي، المرجع السابق ،ص405
[22] -ينظر:عبد الرحمن غركان،م،س،ص90.
[23] الموسوعة الشعرية،ديوان إسحاق الموصلي.
[24] - الآمدي، المرجع السابق ،ج1ص24.
[25]- . المرجع نفسه،الصفحة نفسها.
[26] - نور الدين السد،الشعرية العربية،ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر،1995 ،ص214.
[27] - أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني،ج16ص406،407.
[28] - داود سلوم،مقالات في تاريخ النقد الأدبي، وزارة الثقافة،دار الرشيد، بغداد،1981،ص207.
[29] - عبد الرحمن غركان، المرجع السابق ،ص92.
[30] - الموسوعة الشعرية،ديوان أبي تمام.
[31] -الآمدي ، المرجع السابق ،ج1ص201،202.
[32] -الموسوعة الشعرية،ديوان أبي تمام.
[33] -الآمدي ، المرجع السابق ،ج1ص401.
[34] - الموسوعة الشعرية، ديوان أبي تمام.
[35] -الآمدي ، المرجع السابق ،ج1ص229.
[36] - عبد الرحمن غركان ، المرجع السابق ،ص95.
[37] -ابن قتيبة ،الشعر والشعراء،ج1ص84.
[38] - الآمدي، المرجع السابق ،ج1ص402.
[39] - الموسوعة الشعرية،ديوان أبي تمام.
[40] - الآمدي، المرجع السابق ،ص278.
[41] - إحسان عباس،تاريخ النقد الأدبي عند العرب،دار الشروق،ط2 عمان،1986 ،ص180.
[42] - للمزيد من الاطلاع،ينظر:قدامة بن جعفر،نقد الشعر،تح:مصطفى كمال،مكتبة الخانجي،مصر، 1963،ص245،252.
[43] -الموسوعة الشعرية،ديوان الأعشى.
[44] -ينظر :الآمدي،م،س،ج1ص41،43.
[45] -ينظر:محمد عبد الله الغذامي،الخطيئة والتكفير،النادي الأدبي الثقافي ،جدة 1985،ص22.
[46] -الآمدي، المرجع السابق ،ج1ص496.
[47] - عبد الرحمن غركان،المرجع السابق ص102.
[48] - إحسان عباس، المرجع السابق ،ص316.
[49] -القاضي عبد العزيز الجرجاني،الوساطة بين المتنبي وخصومه،تح:محمد أبو الفضل وعلى البجاوي ،طبع بمطبعة عيسى الحلبي،القاهرة،1966،ص64.
[50] - أبوبكر محمد بن يحي الصولي،أخبار أبي تمام،تح: خليل محمود عساكر،ومحمد عبد عزام،المكتبة التجارية،بيروت(دت)ص172.
[51] - المرجع السابق ،ص172.
[52] - القاضي الجرجاني، المرجع السابق ،ص64.
[53] المرجع السابق ،ص33.
[54] -هذه المقطوعة موجودة في ديوان قيس بن الملوح(مجنون ليلى)وكذلك في ديوان الصمة بن عبد الله بن الطفيل القشيري.
[55] -القاضي عبد العزيز الجرجاني، المرجع السابق ،ص33.
[56] -م،س،ن،ص15.
[57] المرجع السابق نفسه ،ص24،25.
[58] - المرجع السابق نفسه ،ص16.
[59] المرجع السابق نفسه ،ص33.
[60] - المرجع السابق نفسه ،ص 10،وديوان امرئ القيس.
[61] - المرجع السابق نفسه ،ص 428.
[62] -. المتنبي، الديوان ، شرح البرقوقي،دار الكتاب العربي،بيروت،1986ص1/219.
[63] -ينظر : المرجع السابق نفسه ،ص 428.
[64] - المتنبي، المرجع السابق ،ص4/413.
[65] -ينظر:عبد العزيز الجرجاني ،الوساطة،ص428، والمتنبي، المرجع السابق ،ص3/60
[66] -المتنبي ، المرجع السابق نفسه ، ص1/158.
[67] -عبد العزيز الجرجاني، المرجع السابق ص57.
[68] - المتنبي،الديوان.
[69]المرجع نفسه ،ص 98.
[70] - عبد الرحمن غركان ، المرجع السابق ،ص119.
[71] - المتنبي، الديوان ص 3/244.
[72] -محمد بن يزيد المبرد،الكامل في اللغة والأدب،مؤسسة المعارف،بيروت 2002 ج1ص75.