شكلت لي رواية "سيرة الشيخ نور الدين"، للدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي مفاجأة سارة ورشفة من الماء العذب البارد الصافي. فأنا من محبي الروايات العربية والمترجمة. لكن الرواية العربية في الفترة الأخيرة غرقت في الجنس، وحتى لو لم يكن الجنس هدفها، فقد تضمنت كما هائلا منه، مما أصابني بالقرف والتقزز فامتنعت في العام الأخير عن شراء الروايات –تقريبا-.
هذه الرواية تحكي عن الأيام الأخيرة في حياة شيخ من الأقصر، اكتسب المشيخة بالوراثة والدراسة، واكتسب معها التقاليد العربية الإسلامية للصعيد، فصار بطلا جمع المجد والشرف والقوة والحكمة والعلم، مما مكنه أن يظهر الجوانب المدهشة للحياة حين يحكمها الإسلام.
اكتسب الشيخ قوته من صدق ومتانة علاقته بالله، فقد كان يناجي الله سبحانه وتعالى في كل حال، في الغضب والرضا، في الشدة والرخاء، في العسر، وفي أقصى حالات الاسترخاء والتعرض للغواية. وقد تمسك بأمرين نال بهما رضا الله والناس، العفة والزهد في المال، رغم أنه كان رجلا عاديًا يخالط الناس.
واكتسب احترام الناس له بسبب قوته ومهارته في السباحة والتحطيب (لعبة الضرب بالعصا الغليظة) والفروسية والمرماح (المثاقفة أو المواجهة بالحراب الخشبية الطويلة فوق ظهر الحصان). وكان حتى أواخر أيامه يقفز فوق الحصان كشاب في العشرين وينطلق به بما يحسنه غيره، وإذا أمسك أحدًا شده أو عصره بقوة غير متوقعة.
ولم تكن بطولته للمباهاة والتسلط، فحين أسقط البطل المشهور في الأقصر عن حصانه وهو فتى يافع، نزل سريعًا لينهضه ويعتذر له ويقول له: "آسف يا عم". وحين سرق اللصوص جمال قافلة صديقه ورفيقه استخدم جرأته ومهارته في الفروسية لإعادة الجمال المسروقة لصاحابها وسط وادي حلفا وهي بلاد منقطعة تعيش تحت رحمة قطاع الطرق. وأخيرا حين نفى الإنجليز سعد زغلول ترك بيته وأهله وحمل بندقية وأثار الناس وجعل يخطف الضباط الإنجليز في الصعيد ليضغط على سلطات الاحتلال كي تعيد سعد باشا ورفيقه، ولم ينس أنه شيخ ينشر دين الرحمة بين العباد فكان لا يرهق الثوار الذين كانوا معه وكان يراعي دومًا عدم إسالة نقطة دم واحدة.
كان الشيخ نور الدين يأكل من عمل يده، ولم يكن يتأخر عن العمل الذي ييسره الله له، فهو تاجر شاي وقهوة أثناء دراسته في جامعة الأزهر بالقاهرة، وهو مدرس للغة العربية في مدرسة الكنيسة تارة أخرى، ولا يتأخر عن قيادة قافلة للجمال من السودان لمصر إذا سنحت له الفرصة وكانت الأجرة المتوقعة مجزية. المهم أن يكسب بكده، ولا يأخذ من أحد شيئا، لكنه كان يعطي دوما وكان أكثر ما يعطي للغريب والمحتاج. فقد كان مأذون الأقصر الرسمي لكنه كثيرا ما يهدي جنيها من الذهب للعروس جبرا لخاطرها إن كان هذا الزواج قد تم اضطرارا بما يقلل من مكانة العروس في نظر أهل زوجها. وهو ينفق على الساحة المفتوحة للفقير والغريب والضيف ويوفر لهم فيها يوميا الطعام والشاي والخدمة. وحين مات فتحوا صندوق مدّخراته ليجدوه خاليا إلا من نفقة لمدة سنة لأسر كان يعيلها سرًا، ونفقة لمدة سنة لولده الذي كان يدرس في الأزهر.
وقد راعى الشيخ جوار المسيحيين، باعتبارهم جيرانه وأهل بلده وأنسبائه، بل وعمل في مدارسهم، وحصل منهم على إعفاء لفقراء المسلمين من مصاريف الدراسة في مدرسة الكنيسة، واكتسب ثقتهم حتى صاروا يلجئون إليه في مشكلاتهم كما يفعل أهل بلدهم من المسلمين.
حقق الشيخ نور الدين بتواجده وسط الناس وبما أسلف من فضله وبما أحاط به من هالة وتقديس، حقق الأمن للناس، وانعدمت جرائم الثأر والشرف، وحقق لهم الستر أو الأمن المجتمعي، وكان في تعاطيه مع مشاكل الناس دائمًا ما يؤثر الستر والعفو والسماح وغالبًا ما يتخذ جانب المرأة، وكان ينهر الناس ويهددهم لينهيهم عن الطلاق، كما حقق زيجات كثيرة بين أطراف غير متكافئة ستر بها على الناس، ما كان يمكن لها أن تتحقق لولا نفوذه الكبير.
لكنه كان الأخير في أسرته الذي دانت له البلد، فقد قامت ثورة عبد الناصر، التي سمحت للانتهازيين بالظهور والسيطرة وقوت سلطة الحكومة المركزية التي كانت بعيدة جدا عن تلمس حاجات الناس ومصالحهم. وقد قامت كل الحكومات الدكتاتورية في الوطن العربي بالقضاء على الكبراء والوجهاء، لكي لا بقى في الدنيا زعيم أو رجل مرموق إلا الزعيم الأوحد.
الشيخ نور بطل من الزمن الذي مضى، قاد الناس إلى رضا الله وبر الأمان، وجاء بعده رجال من أهل بلده، يأخذون ولا يعطون، لا يملكون من مؤهلات الزعامة سوى النفاق والكذب، يهمهم أن يكسبوا ولا يُكسبون الناس شيئا، يقيمون بعيدين في القاهرة يلتمسون الراحة والمتعة والمناصب، ولا يعيشون بين الناس، ليتداركوا أمورهم ويحلوا مشاكلهم في كل ساعة من ساعات الليل والنهار.
عاب عليه ابن أخيه الذي درس الماجستير في إنجلترة أنه دفن نفسه في الأقصر، رغم أن كان يملك من المؤهلات ما يجعله شيخا للأزهر أو قاضيا كبيرا، لكنه في النهاية اعترف أن ما وزير ولا كبير في القاهرة حقق ذاته وأراح ضميره وعاش كما أراد مثلما فعل عمه الشيخ نور الدين.
هذه الرواية تذكرني بالبطل الشعبي عند هالة البدري، و "وديدة" زوجة العمدة في رواية" المنتهى"، وابنها اللواء البطل الذي حارب في كل حروب الجيش المصري ضد إسرائيل في رواية " ليس الآن".
وفي كل هذه الروايات فإن مجيء زمن الأنانية والنفاق قتل "الكبير" او البطل الشعبي في مصر وأضاع عنها الحكمة والأمان.
أعتذر من المؤلف ومن القراء لأني أهملت في هذه اللمحة الموجزة عن الرواية العناصر الفنية فيها وهي التي تجذب القارئ وتشده إليها حتى يصل إلى نهايتها، ولكني أقول لكم أني استمتعت بها، وما إن انتهيت من قراءتها وفهمت القصة حتى عدت أقرأها ثانية لأستمتع بطريقة السرد الجميلة والتفاصيل والحكايات الكثيرة التي تغمس الواحد في قلب مجتمع الصعيد.
صدرت هذه الرواية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في سلسلة مكتبة الأسرة عام 2013. والكاتب أستاذ للأدب العربي والنقد عمل في العديد من الجامعات العربية والأمريكية والعالمية.