يبدو موضوع الكتاب غريبًا، فقد ماتت اللغة اللاتينية وانحصرت دراستها في مختصين قلائل. لكن ما كتب بتلك اللغة قد ترك أثرًا عميقًا في ثقافة الشعوب الأوروبية امتد حتى اليوم. ألا وهو الصورة السلبية للإسلام عامة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة، هذه الصورة المحفورة في وجدان كل غربي، والتي تشكِّل مواقفه من الدول والشعوب الإسلامية. ولذلك نحتاج أن نبيّن للغرب انطلاقًا من كتبه وثقافته ولسان علمائه أنه قد استقى معلوماته من مصدر متحيِّزٍ وغير عقلاني. كما نحتاج أن نعرّف المسلمين لماذا انطبعت هذه الصورة السلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغرب. وللإجابة على هذه الأسئلة، ولإضاءة زاوية معتمة في معرفتنا عن تاريخ ترجمة القرآن باللغة اللاتينية، كان هذا الكتاب.


هذا الكتاب يضع أمام القارئ ثلاثًا وأربعين من ترجمات القرآن الكريم باللغة اللاتينية، وُيعنى بشكل خاص بضبط عناوين الترجمات وأسماء كتّابها وأماكن وجود مخطوطاتها. ويعرض الكتاب لظروف كتابة هذه الترجمات، وتأثيرها، والأشخاص الذين شاركوا في ترجمتها وتصحيحها. كما يأتي الكتاب –كلما أمكن- بنماذج من الترجمات وصور لمخطوطاتها، وتعليق الباحثين والمهتمين بها.

 


كما يُعنى الكتاب بدراسة سِيَر المترجمين، وبأعمالهم، وبخاصة ما تعلق منها بالإسلام وباللغة العربية. وحيث أن غالبيتهم كانوا من القساوسة فقد وفر الكتاب إطلالة واسعة على أوضاع الكنيسة، بدءًا من زمن الحروب الصليبية، وانتهاءً بقيام الثورة الفرنسية.


وقد تتبع الكتاب دراسات الترجمات اللاتينية للقرآن الكريم والتي نشطت كثيرا في الجامعات الغربية خاصة في السنوات الخمسة عشرة الأخيرة. وتتبع الكتاب كذلك اكتشاف "روبرتو توتولي" عام 2014 لمخطوطات القسيس "لودفيكو ماراتشي" في كنيسته بروما ، واكتشافه لترجمة كاملة للقرآن "ليوهان زيشيندورف" في دار الكتب في القاهرة. وكذلك ما اكتشف قبله آخرون ترجمات "سيريليو لوكاريس"، و"دومينيك جرمانوس السيليزي" وحققوها. وفي نفس الوقت ظهرت كتب كاملة تتحدث عن بعض مترجمي القرآن الكريم من أمثال "خوان دي سيغوفيا"، و"إيجيديو دا فيتيربو"، و"ليون الأفريقي" (الحسن بن محمد الوزان) و"سيريليو لوكاريس". وقد بيّن هذا أن معرفتنا بترجمات القرآن الكريم اللاتينية حتى الآن سطحية، و"أننا ما نزال نحك بأظافرنا سطح تربة عميقة وغنية" كما وصف ذلك "توماس بورمان".


وقد تم التوسع في هذا الكتاب في سبع ترجمات ذات أهمية خاصة وهي:


1-الترجمة اللاتينية الأولى التي كتبت عام 1143 وقد أنجزت على وقع حرب الاسترداد الإسبانية في الغرب، والحروب الصليبية في الشرق، وقصد بها تحصين القساوسة من الميل للإسلام، فلم تراع في هذه الترجمة الأمانة بل شابها التزوير والحذف والإضافة ولم تكن أصلا ترجمة لنص القرآن الكريم بل ترجمة لنص مواز صنعه المؤلف روبرت كيتون. وقد تبنّت الكنيسة هذه الترجمة، وعتّمت على ما تلاها من ترجمات، وصارت مصدرا كتبت عنه ترجمات للقرآن الكريم بمعظم اللغات الأوربية، وأصبحت هذه الترجمة مصدرا للعديد من التآليف الأوربية، كما استمر تأثيرها حتى اليوم في الذاكرة الجمعية الأوروبية.


2- ترجمة خوان دي سيغوفيا: وتعتبر هذه الترجمة مثالا فريدًا على التعاون بين اثنين من رجال الدين أحدهما مسيحي والآخر مسلم في انتاج ترجمة جيدة ومتعددة اللغات. كما أن خوان دي شيغوفيا كان صاحب رسالة رائدة تدعو لإقامة علاقات سلمية بين المسلمين والمسيحيين.


3- ترجمة فلافيوس ميثيريديتيس: إضافة إلى أن هذه ترجمةٌ مزخرفةٌ وأنيقةٌ تسر العين، فإن كاتبها كان يهوديًا تنصّر في الظاهروكان أول من أدخل القابالاه اليهودية إلى الدين المسيحي واسم المترجم الحقيقي هو: شيموئيل بن نسيم بن شاباتي أبو الفرج الغريغنتي. وقد أورد الكتاب نموذجًا من ترجمته، لكنه توسع أكثر في سيرة حياته وأعماله.


4- ترجمة ايجيديو دا فيتيبرو(1518): وهي ترجمة كبيرة تقع في مجلدين وأربعة أعمدة في كل صفحة، وفيها أدوار مهمة للناسخ ولثلاثة مترجمين آخرين، منهم اثنان من العرب، أحدهما ليون الأفريقي. كما أن سيرة الكاردينال إيجيديو نفسها مهمة إذ أنه أيضًا أحد كبار المساهمين افي إقحام القابالاه اليهودية في صلب العقيدة المسيحية.


5-ترجمة توماس إربينيوس(1617): المترجم هو رائد تدريس اللغة العربية في أوروبا كما أنه من رواد الطباعة العربية. وقد ترجم العهد الجديد وبعض الأعمال الأدبية واللغوية العربية، وترجم سورة يوسف كمادة لتدريس قواعد اللغة العربية والإملاء، ثم ترجم سور لقمان والسجدة والصف والتغابن، وكان بصدد طباعة القرآن الكريم وترجمته كاملا.


6-ترجمة سيريليو لوكاريس(1630): قام أوسكار دي لاكروث بالما بتحقيق هذه الترجمة عام 2006 وأصدرها في كتاب بالإسبانية. وتعتبر هذه الترجمة مراجعة لغوية لترجمة روبرت كيتون اللاتينية الأولى. والمترجم هو بابا القسطنطينية كيرلس السادس رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الذي حاول تحويل هذه الكنيسة إلى المذهب الكالفيني البروتستانتي، فأرسل طلبة اللاهوت لدراسة هذا المذهب في سويسرا وألمانيا وهولندا وانكلترا، ثم نشر نشر كتابًا عن المذهب الكالفيني فلم يحتمل ذلك المحافظون في الكنيسة فقتلوه ورموه في البحر واتهموا به السلطان مراد الرابع.


7-ترجمة دومينيك جرمانوس السيليزي(1669): كان المترجم على علم بالقرآن الكريم قل نظيره بين علماء عصره، وقد ألف عدة معاجم عربية إضافة لترجمته للقرآن الكريم التي حققت عام 2009. وكان أول أوروبي حاول وأنجز العمل الشاق والمتمثل في جعل القرآن الكريم وهو الكتاب الأساسي للمعتقدات الإسلامية مفهومًا بدقة. وقد أخفيت ترجمته فور إنجازها ولم تظهر ثانية إلا في أيامنا هذه.


8- ترجمة لودفيغو ماراتشي(1698): هذه أدق ترجمة للقرآن الكريم ومعلمة في تاريخ الترجمة. وقد تضمنت نص القرآن الكريم باللغة العربية، مع شرح له مستندٍ لتفاسير العلماء المسلمين. وقد عكف هذا الراهب الكاثوليكي أربعين سنة على هذه الترجمة، قام خلالها بنسخ عدة تفاسير للقرآن الكريم وترجمتها قبل أن ينتقل لترجمة القرآن. وأرجو ألا يغتر أحد بعنوان الترجمة وهو "الرائد في الرد على القرآن الكريم" فهو عنوان فرضته الظروف، ولكن الترجمة دقيقة وأمينة وكذلك الشرح والتفسير، إلا أن المترجم كان مضطرًا لوضع رد شكلي بسيط حتى يسمح له بنشر كتابه.


كما تضمن هذا الكتاب جدولا يلخص بيانات الترجمات كلها، ثم فصلا عن معلوماتها الإحصائية، ثم تعريفًا بالعلماء الغربيين الذين عملوا على هذا الموضوع وأهم أعمالهم. ثم سردًا للعلماء العرب الذين ترجموا القرآن الكريم إلى اللاتينية أو كان لهم دور فيها، وأخيرًا تضمن بيانا للفوائد الجانبية لهذا الكتاب.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية