رغم أن هذا الكتاب قديم – طبعة 1987- الا أن أهميته تستدعي التعريف به حتى ونحن في الألفية الثالثة. الكتاب هو ترجمة لقصيدة البردة الشهيرة التي كتبها البوصيري مدحا في النبي صلى الله عليه و سلم ، لكن الطريف في هذه الترجمة هو أنها ترجمة بالشعر الإنجليزي الذي يلتزم بأقرب الأشكال الشعرية الإنجليزية إلى موسيقى الشعر العربي القديم و هو نظام التشطير التصريعي أو التصريع المسرحي heroic couplet و الذي كان يلتزمه شعراء الكلاسيكية الجديدة من أمثال الشاعر الكبير ألكسندر بوب. صاحبة هذه الترجمة هي ثريا مهدي علام و قام بمراجعتها الدكتور محمد مهدي علام. و الكتاب مكتوب بالإنجليزية و يقع في 173 صفحة من القطع الصغير 20x 15 و الناشر الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1987 الطبعة الأولى.
و المترجمة مصرية و لدت في القاهرة و قضت اثني عشرة عاما من طفولتها في انجلترا مع عائلتها ثم عادت إلى مصر في 1948 و التحقت بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب و تخرجت فيه بمرتبة الشرف. و قد كتبت العديد من القصائد بالإنجليزية في العديد من المجلات الأدبية كما حصلت على جائزة من السفارة الباكستانية عام 1982 لقصيدتها "محمد إقبال الأب الروحي لباكستان" في الاحتفال بذكرى ميلاد الشاعر الخامسة بعد المائة. كما حصلت على جائزة الدولة للترجمة 1986 عن ترجمة كتاب " أصداء الشعر العربي في النظم الإنجليزي".
تستهل المترجمة الكتاب بمقدمة ضرورية للقارئ غير العربي – و العربي أحيانا- عن الامام البوصيري و قصة البردة التي تلخص في أن البوصيري كان قد أصيب بشلل نصفي آلمه كثيرا فكتب قصيدة يمدح فيها النبي صلى الله عليه و سلم من 160 بيتا ثم أوى إلى فراشه فأكرمه الله برؤية النبي صلى التتله عليه و سلم في المنام فكان أن قرأ البوصيري قصيدته على النبي صلى الله عليه و سلم فوضع النبي – صلى الله عليه و سلم – بردته – عباءته – على البوصيري. و عندما أستيقظ البوصيري وجد أنه عوفي من الشلل الذي أصيب به و كأنما نشط من عقال. و من ثم اقسم ألا يكتب بعد اليوم إلا قصائد تمدح شمائل النبي و تدعو إلى مكارم الأخلاق و التمسك بالدين. و من الناحية الأدبية تعتبر قصيدة البوصيري قطعة أدبية فريدة تتناغم فيها المعاني الراقية و المواعظ الحكيمة و الدعاء الخاشع مع الموسيقي العميقة و الترانيم الرتيبة و التي تضفي على القصيدة جوا من الجمال و البهاء و من ثم فلا غرو أن أتخذها معظم الصوفيين – برغم بعض أبياتها التي يعتبر البعض أن بها خروجا و شططا عن صحيح الدين – مادة خصبة لأذكارهم و مجالسهم تنشد فيه القصيدة و تعاد كل بضعة أيام. و لجمال القصيدة حاول الكثير من الشعراء معارضتها و من اشهر من قام بهذا أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الموسومة "نهج البردة" و رب السيف و القلم محمود سامي البارودي.
ترى المترجمة أنه رغم تنوع ترجمات البردة إلا أنها تكاد تجزم انه لا توجد ترجمة تستخدم الشعر الإنجليزي لعرض البردة بالإنجليزية، و ترى أ ن قارئ القصيدة أحد ثلاثة أ أشخاص ؛ أولهم من يريد أن يعرف المعني العام للنص بلا دخول في التفاصيل و مثل هذا القارئ يقنع بترجمة عامة ملخصة لمعاني القصيدة؛ و ثانيهم هو من يقرأ ليعرف المعنى العام و لا يغفل التفاصيل و هذا القارئ مثله مثل التلميذ النابه الذي يسأل أستاذه عن معاني الكلمات و أصول الصور البيانية و المترجم هنا مثل المدرس الذي يجيب التساؤلات و يقرب المعاني للأذهان ؛ أما القارئ الثالث فهو من يقرأ ليفهم و يتذوق و يستبين ما وراء الكلمات و يستشف الحالة الشعورية للكاتب عند الكتابة . و هذا القارئ هنا هو المترجم نفسه الذي يقرأ ليحيط بالنص من كل أبعاده ثم يأتي بالترجمة كالحسناء و صورتها في المرآة – كما يقول حافظ إبراهيم (نقلا عن الدكتور محمد عوض – فن الترجمة). و من العجيب أن هذا التقسيم الذي تورده المترجمة يتسق إلى حد كبير مع جوانب نظرية Relevance Theory الحديثة و التي من أساطينها Earnest August-Gutt الذي يؤكد أن أمانة المترجم ليست مقصورة على الالتزام بوثاقة صلة الترجمة بالأصل بل كذلك الالتزام بصلة أسلوب الترجمة طبقا للجمهور الذي نترجم له؛ فترجمة النعيم المفقود Paradise Lost مثلا لأطفال في مدرسة ابتدائية يجب الا تعدو صوغ الترجمة في شكل حكاية أخلاقية بسيطة و قصيرة، أما ترجمتها لمجموعة من طلاب الجامعة فهي ترجمة تلتزم بالمعاني الأصلية و لكنها قد تغفل عن عمد الكثير من الصور البيانية و الإشارات لأشخاص أو أحداث في حين أن ترجمتها لمعشر الأدباء و عشاق الآداب يفرض على المترجم أن تكون ترجمته ممثلة – بقدر الامكان – لصور الأصل و جمالياته بالإضافة طبعا إلى معناه.
و من الصعوبات التي قابلت المترجمة في عملها في البردة كثرة الإشارات إلى رموز من بيئة الصحراء و إلى ألفاظ من القرءان و إلى أمثال العرب و كل هذه الرموز غريبة تماما للقارئ الأجنبي الذي قد لا يعرف شيئا عن بيئة العرب، لذلك حاولت المترجمة –و نجحت في ذلك إلى حد كبير – أن تكون ترجمتها تواصلية تفسيرية كي تقلل من رجوع القارئ إلى الحاشيات التي قد تقطع حلاوة الاستمتاع بالقراءة. و مثال على هذه الترجمة التفسيرية نقرأ البيت رقم 106 :
و من هو الآية الكبرى لمعتبر
ومن هو النعمة العظمى لمغتنم
ف"المعتبر" هنا يعني الذي يميز الصواب من الخطأ و "المغتنم" هو من أغتنم الهداية إلى الإسلام. لذلك عند الترجمة حاولت المترجمة توضيح هاذين المعنيين فقالت :
Thou art the greatest omen
To whomever does desire
To judge the right from evil,
And to virtue thus aspire
Thou art the highest blessing
To whome'er a profit gains
The blessing of guidance
Of Islam and all its claims.
أما الإشارات إلى الأماكن فقد استبقتها المترجمة كما هي مع وضع أنجما صغير للعودة إلى الحاشية و هذا ما تطالعنا به أول أبيات القصيدة:
1- أمن تذكر جيران بذي جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
Do memories of neighbours
Of Dhu Salam cause in woe
The blending of the blood with tears
That from eyes thus flow?
2- أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
و أومض البرق في الظلماء من إضم
Or does the wind that from Kazima blows
Your eyes now smite,
Or lightning's flashes from Idam
In darkness of the night?
3- فما لعينيك إن قلت اكففا همتا
و ما لقلبك إن قلت استفق يهم
What ails your eyes, for yet they flow,
Though told by you to cease?
What ails your heart, when told
Its senses to regain in peace,
It then becomes distraught by love,
A love with no release?
و من الصعوبات الأخرى التي واجهت المترجمة في عملها طبيعة الشاعر المتغيرة؛ إذ جاء شعر البوصيري صادقا مسترسلا دفاقا أحيانا و جاء متكلفا مصطنعا أحيانا أخرى. و ترى المترجمة – الكاتبة – أن النوع الأول من الحالة الشعورية أسهل في الترجمة كما يبين في البيت التالي:
55- كالزهر في ترف و البدر في شرف
و البحر في كرم و الدهر في همم
How like a flower in its freshness
And its pleasant grace,
How like the full moon in its glory
In the sky's vast space.
How like the ocean wide
In its great generosity
And how like Time in aspiration
And ability.
أما الحالة المتكلفة و التي هي أصعب نسبيا من السابقة عند الترجمة فمثالها البيت التالي:
120- ودوا الفرار فكادوا يغبطون به
أشلاء شالت مع العقبان و الرخم.
His foes did wish to flee and yet,
From fear and in despair
Craved death, and almost envied limbs
Of corpses, which then were
By eagles and by vultures snatched,
And carried in the air.
ومهما يكن من أمر فإن ترجمة البردة إلى الشعر الإنجليزي خبرة ممتعة تستحق القراءة و تستحق أن ندعو طلابنا إليها كي يتلمسوا معاني الشعر العربي و الإنجليزي من خلال الترجمة.